الصراع الروسي الأوكراني يعيد تأكيد نموذج حروب القرن العشرين


<p class="rteright">الحرب في أوكرانيا ما زالت تقليدية من حيث السلاح الأكثر فعالية ونطاق العنف الذي يعتقد المراقبون أنه سيحدد كيف تنتهي المعركة (رويترز)</p>

في بداية الحرب الروسية الأوكرانية، تحدث المراقبون ووسائل الإعلام الدولية حول استخدم الكرملين تقنيات مختلطة في الحرب، والتي تنوعت بين القوة العسكرية على الأرض والمعلومات المضللة والهجمات السيبرانية وعمليات تخريب البنية التحتية، كما تلقت روسيا هجمات سيبرانية بشكل أقل خطورة من قبل تحالف من المتطوعين الدوليين الذين وصفوا بأنهم متعاطفون مع أوكرانيا، ما حدا بالبعض إلى الاعتقاد بانتهاء عصر الحروب التقليدية وبدء حقبة جديدة من الحروب الحديثة الأقل دماء، وهو ما أتت بنقيضه الحرب نفسها. 

فبعد مضي أكثر من سبعة أشهر على الصراع الذي اشتمل العديد من الأسلحة والأدوات غير التقليدية، فإن الحرب ما زالت تقليدية من حيث السلاح الأكثر فعالية ونطاق العنف الذي يعتقد المراقبون أنه سيحدد كيف تنتهي المعركة. فوفقاً لكلية كييف للاقتصادات، فإن القوة الضاربة الروسية تسببت في خسائر للبنية التحتية الأوكرانية تزيد عن 108 مليار دولار وتركت 3.4 مليون شخص مشرد، فيما بلغ إجمالي الأوكرانيين الذين فروا لاجئين إلى دول الجوار نحو 6.5 مليون شخص، وبحسب الأمم المتحدة فإنه حتى منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، بلغ عدد القتلى من الجانب الأوكراني أكثر من 5800 شخص، والمصابين نحو 8 آلاف. وبينما لا تزال الأرقام مجهولة على الجانب الروسي، لكن تشير الاستخبارات الغربية إلى آلاف القتلى في صفوف القوات الروسية والأوكرانية. 

مستوى العنف والدمار الذي أحدثه الصراع حتى الآن ليس وحده العنصر المحدد لكلاسيكية الحرب، فالأهم هنا السلاح الحاسم في المعارك. إذ أثبت التقدم الأوكراني خلال الأسابيع الأخيرة الماضية أن القوة الأرضية الضاربة، التي وفرتها الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين للقوات الأوكرانية، هي العنصر الأهم في الحرب. فمنذ بدء هجومها المضاد على القوت الروسية في أواخر أغسطس (آب) الماضي، استعادت أوكرانيا أكثر من 1170 كيلومتراً مربعاً من الأراضي في منطقة خيرسون الجنوبية، ما دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لإعلان التعبئة الجزئية لضم نحو 300 ألف جندي للقتال. ليس ذلك فحسب، بل ربما تتجه كييف للعمليات النوعية مثل تفجير جسر القرم في مضيق كيرتش، الذي يمثل طريق إمداد مهماً للقوات الروسية التي سيطرت على معظم منطقة خيرسون بجنوب أوكرانيا. ففي حين لم تعلن أوكرانيا مسؤوليتها عن الانفجار، لكن وزارة الدفاع الأوكرانية قالت إن تدمير الطراد موسكفا وجسر كيرتش هو إسقاط لما وصفته “لرمزين سيئي السمعة للقوة الروسية في القرم”، من دون أن تعلن رسمياً المسؤولية عن تفجير الجسر. كذلك نقلت وكالة رويترز عن ميخايلو بودولياك مستشار الرئيس الأوكراني أن تفجير جسر القرم هو “البداية”. وتم تداول صور وفيديوهات على مواقع التواصل لأوكرانيين وهم يلتقطون صوراً أمام تصميم على شكل طابع بريدي وضع وسط العاصمة كييف ويحمل صورة لجسر القرم بعد تفجيره.

حرب كلاسيكية

يتفق المراقبون على أن روسيا تخوض حرباً تقليدية في أوكرانيا بتركيز من القوات البرية وقوة النيران الثقيلة التي تهدف لتدمير عدوها، ذلك جنباً إلى جنب مع استخدام كل تقنيات قواعد اللعبة المختلطة في محاولة لإنجاز أهدافها. ويقول سكوت جاسبر، المحاضر في كلية الدراسات العليا البحرية في مونتيري بكاليفورنيا، في مقال بمجلة “ناشونال انترست”، إن قرار موسكو بالتعبئة الجزئية لجنود الاحتياط يشير إلى التزامها القوى بحرب تقليدية طويلة الأمد في أوكرانيا، لكن من المؤكد أن الإجراءات الهجينة من حرب المعلومات والهجمات السيبرانية وتخريب البنية التحتية لخطوط الطاقة، سترافق السلاح التقليدي لاستنفاد القوى الأوكرانية وداعميها الغربيين. 

وفي حديثه لـ”اندبندنت عربية”، قال ديفيد دي روش، الأستاذ لدى مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الأمنية، إن حرب أوكرانيا بمثابة إعادة تأكيد على أهمية ومتطلبات الدفاع الثقيلة الحاسمة وتوفر قاعدة صناعية كبيرة للحفاظ على الحرب الحديثة؛ فمنذ نهاية الحرب الباردة، ولا سيما منذ عملية “عاصفة الصحراء”، انجذب معظم المفكرين نحو مفهوم الحرب كتمرين شديد الدقة في تدمير محدود ولكن موجه، حيث يستطيع المسلحون بأسلحة دقيقة للغاية تدمير القوات العسكرية للأعداء باستخدام الحد الأدنى من القوة، في الغالب من خلال ضربات الطائرات بدون طيار أو الصواريخ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويضيف أن وجهة النظر هذه للحرب مُغرية لأنها رخيصة من حيث الموارد، وتتزامن مع الزيادة في القدرات الإلكترونية التي نشهدها على صعيد التكنولوجيا المدنية (مثل الهواتف المحمولة الصغيرة) وفي الوقت نفسه تعد بالقضاء على المذابح وإراقة الدماء التي تسفر عنها الحرب التقليدية. هذه الفكرة تحمل أسماء مختلفة أبرزها هي “الثورة في الشؤون العسكرية”، والتي تنص على أن الأسلحة الشبكية فائقة الدقة يمكن أن تدمر القدرة القتالية للعدو بأقل كمية من إراقة الدماء.

ومع ذلك، يقول روش إن الحرب في أوكرانيا أثارت رعب معظم المحللين مع عودة ظهور نموذج العصر الصناعي للحرب التي تقودها المدفعية والتي يعرفها العالم منذ معركة فردان في الحرب العالمية الأولى عام 1917 وبرلين في الحرب العالمية الثانية 1945، فبدلاً من النمط الأنيق من الضربات والمناورة الدقيقة، التي كانت خطة روسيا الفاشلة للاستيلاء على كييف، رأينا قذائف مدفعية ضخمة موقوتة.

مبارزة على نطاق واسع

ويصف كوازومو يو، المحاضر لدى مركز أبحاث العلوم والتكنولوجيا المتقدمة بجامعة طوكيو، الحرب الروسية الأوكرانية بأنها تقليدية للغاية. ويقول إنها حرب يتم فيها إرسال عدد كبير من الجنود والأسلحة النارية لتدمير القدرات العسكرية لبعضهم البعض بهدف فرض النوايا السياسية على الآخر – تماماً مثل الحرب التي حددها المنظر العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز في القرن التاسع عشر على أنها “لا شيء سوى مبارزة على نطاق واسع”.

بينما أمرت أوكرانيا بتعبئة عسكرية عامة للسكان لتوفير عدد كبير من الأفراد للحرب، كانت القوات الروسية تمضي قدماً بقوتها النارية المتفوقة التي تستخدم مجموعة متنوعة من المدفعية والصواريخ، القديمة والجديدة. ومع ذلك، بعد مرور أكثر من سبعة أشهر على الحرب، لا يزال من غير الواضح من هو الفائز، كما أن خط الجبهة الذي يمتد حوالى 2500 كيلومتر، لم يتغير كثيراً أيضاً. ومن ثم ظهر وضع يبدو وكأنه نسخة مصغرة من الحرب العالمية الأولى، بحسب كوازومو يو، حيث يشن كلا الطرفين حرب استنزاف. 

في حين أنه تم استخدام جميع التقنيات العسكرية التي ظهرت في مطلع العقد الحالي في الحرب، يشير المحاضر الياباني إلى ثلاثة أسباب لتحول الصراع في أوكرانيا إلى حرب تقليدية؛ فأولاً، لم تحقق الوسائل غير العسكرية التي استخدمتها روسيا في صراع القرم 2014 الإنجازات المتوقعة. فباستثناء شبه جزيرة القرم أو جزء من منطقة دونباس، التي تضم سكاناً من أصل روسي، لم ينجح التلاعب المعرفي على المواطنين وفضلت العديد من المناطق البقاء تحت حكومة أوكرانيا، ومن ثم اختارت روسيا الهجوم على أوكرانيا بقوات عسكرية نظامية واسعة النطاق هذه المرة بسبب الإخفاقات في المحاولات السابقة.

ثانياً، مقاومة أوكرانيا وإرادتها للرد لا تزال قوية. فافتراضات موسكو بأن القوات الروسية ستستولي على العاصمة كييف بسرعة وأن الحكومة الأوكرانية ستنهار أثبتت خطأها، في غضون ذلك، بدأت المساعدات العسكرية واسعة النطاق في الوصول إلى أوكرانيا من الدول الغربية، مما جعل من الصعب على روسيا إعلان النصر في المراحل الأولى. ثالثاً، فعالية الردع النووي، فيقول كوازومو إن روسيا وأوكرانيا تخوضان “حرباً محدودة وشاملة”، إذا جاز التعبير، للقتال بكل القوات التقليدية التي تمتلكها، مع استبعاد احتمال تصاعد المعركة إلى حرب نووية مدمرة في الوقت الحالي.

“عودة دراكولا”

ويتفق المراقبون على أن هذا الواقع غير مريح للعديد من الجيوش الغربية الذين استثمروا بكثافة في التكنولوجيا الهجومية الدقيقة وأهملوا المتطلبات الأخرى للتسليح ذات التقنية المنخفضة ولكن عالية القوة الضاربة. ويقول روش إن الجيش الروسي أطلق في أوكرانيا قذائف مدفعية تعادل عقود من إنتاج الولايات المتحدة حتى الآن، ومن ثم تواجه البلدان المختلفة التي تدعم أوكرانيا بالفعل خيارات صعبة بشأن إما زيادة الإنتاج الدفاعي للأسلحة منخفضة التقنية، أو مجرد التوقف عن توفير الأسلحة لأوكرانيا.

كل هذا يعني أن مبدأ الأسلحة الهجومية الثقيلة في الحرب – الذي تم إهماله لصالح الدقة والخفة – يعيد تأكيد أسبقيته في ساحة المعركة. ويضيف روش “ينظر الكثيرون في الغرب إلى هذا الأمر بنفس الطريقة التي ننظر بها إلى دراكولا وهو ينهض من القبر بخوف وذعر. ويُجرى التخطيط حالياً لزيادة إنتاج الأسلحة القديمة والأقل بريقاً مثل قذائف المدفعية، لكن الغرب سيحتاج إلى بعض الوقت لتقديم نوع الدعم الذي تحتاجه أوكرانيا لطرد روسيا من أراضيها”.

وبالمثل، ينصح المحاضر الياباني بلاده بتعزيز قدراتها الدفاعية في ظل إمكانية اندلاع الحروب التقليدية حتى في عالم اليوم، مشيراً إلى أن طوكيو تفتقر إلى القدرة على الانخراط في حرب استنزاف شرسة. ويشير إلى أن اليابان بحاجة إلى تعزيز مخزونات الذخيرة والبنية التحتية الدفاعية والتجارية، مع تعزيز أدوات الحرب الجديدة التي يتم استكمالها بالوسائل التقليدية. 

subtitle:
هذا الواقع غير مريح للعديد من الجيوش الغربية الذين استثمروا بكثافة في التكنولوجيا الهجومية الدقيقة
publication date:
الثلاثاء, أكتوبر 11, 2022 – 03:45

رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
الموقع :www.independentarabia.com

AymanSerhan

Recent Posts

وفد نادي التضامن صور يزور الرئيس نبيه بري: تكريم لدعمه الرياضي وتأكيد على دور صور في المقاومة والتنمية

قام وفد من نادي التضامن صور بزيارة إلى دولة الرئيس نبيه بري، راعي الرياضة وقائد…

أسبوعين ago

تزامنا مع العاصفة الرملية المرتقبة..الدفاع المدني يوجّه تحذيراً وتنبيهاً هاماً مع تعليمات لتفادي المخاطر

حذرت المديرية العامة للدفاع المدني المواطنين من مغبة إشعال النيران في المناطق الحرجية أو المحاذية…

3 أسابيع ago

من هو المستهدف في غارة بعورتا صباح اليوم؟ (صورة)

استشهد صباح اليوم الشيخ حسين عزات عطوي، من بلدة الهبارية – قضاء حاصبيا مرجعيون، في…

3 أسابيع ago

الجيش يودّع شهداء الواجب الثلاثة بمراسم مهيبة في مستشفى الشيخ راغب حرب

اقيمت قبل ظهر اليوم، مراسم تكريمية ووداعية في باحة مستشفى الشيخ راغب حرب في تول…

4 أسابيع ago

تقرير يكشف أسرار الحرب: كيف استخدمت إسرائيل أمنها واستخباراتها ضد حزب الله؟

نشر موقع “الخنادق” المعنيّ بالدراسات الإستراتيجية والأمنية تقريراً جديداً تحدّث فيه عن الجوانب الأمنية والاستخباراتية…

4 أسابيع ago

فئة الـ 500 ألف ليرة قريبا في الأسواق

عاد الحديث مُجددا عن إمكانية طباعة أوراق نقدية من فئات جديدة بالليرة اللبنانية وذلك بعد…

شهر واحد ago