المصريون حائرون بين أخبار اقتصادية "تطمئن" وأسعار تصدم


<p>يعتمد المصري على ما يعيشه يومياً من مؤشرات اقتصادية حاسمة نابعة من رحلته اليومية للسوق (أ ف ب)</p>
يتابع المصريون البرامج والأخبار والمواقع الصحافية ومنصاتها العنكبوتية التابعة لها، لكن المتابعة في مثل هذه الأيام الصعبة اقتصادياً الملغمة اجتماعياً لا تظل متابعة، قد ترقى إلى خانة الاستفادة والثقة واستشراف ما هو قادم في ظل ما هو حادث، وقد تبقى متابعة على سبيل العلم بالشيء.
ومن باب العلم بالشيء تتداول مجموعات الأسر والأصدقاء والجيران المكونة على صفحات التواصل الاجتماعي مثل “واتس آب” و”فيسبوك” كثيراً من المحتوى الخبري والتحليلي الوارد في وسائل الإعلام المختلفة، لكنه يرفق عادة بمحتوى مماثل يتعلق بالقضايا والملفات والأخبار نفسها، ولكن “المنقول” والمكتوب والمتداول على منصات الـ”سوشيال ميديا”.
الاستهلاك الشعبي للأخبار
المتابع للاستهلاك الشعبي للأخبار والتحليلات الخاصة بالتطورات، لا سيما الاقتصادية في مصر هذه الآونة يلحظ انتعاشاً على الأثير العنكبوتي، وترقباً وتتبعاً مشوبين بحذر لا يخلو من غضب على المحتوى الإعلامي التقليدي.
الأيام القليلة الماضية شهدت هزات عنيفة للاقتصاد وتغيرات قاسية في حياة ملايين وتقلبات رهيبة في الأسعار، لكنها تقلبات “اتجاه واحد”، حيث ما ارتفع سعره يصعب وربما يستحيل انخفاضه.
انخفاض قيمة الجنيه المصري في مقابل الدولار لدرجة أفقدته ما يزيد على 60 في المئة من قيمته في عشرة أشهر فقط، وتمكن الدولار من دفع الجنيه إلى مزيد من الهبوط محققاً ما يزيد على 30 جنيهاً، واستباق التجار الزيادات المتلاحقة في أسعار الصرف بتواتر زيادات مزامنة ومتسارعة في أسعار السلع الغذائية بدءاً بحزمة الجرجير مروراً بالخضراوات والفواكه وانتهاء باللحوم والأسماك والبيض، ناهيك عن ضبابية تفاصيل بنود الإنفاق الأسرية بين مصروفات مدارس وجامعات وفواتير علاج ومواصلات وأولويات ومدخرات آخذة قيمتها في التقلص وغيرها من الهموم اليومية الاقتصادية المتصاعدة تؤكد أمارات الخلاف الذي يلوح بخطر الطلاق.
مؤشرات الطلاق العاطفي الواقع بين المواطن ومنصات الإعلام التقليدي كثيرة وليست وليدة الأمس، لكن الأحداث المحلية المتلاحقة والحوادث العالمية المتسارعة قلما تسمح برفاهية التوقف لتقييم العلاقة ومراجعتها وربما بذل الجهد للتصويب وتصحيح المسار.
حرص خبري بالغ
المسار الطاغي في الإعلام هذه الآونة يتسم بكثير من الحرص الخبري والتدقيق التحليلي حيث مفردات الأخبار موزونة بميزان من ذهب، ونكهة التحليلات محكومة بتوجهات إطارها الأمل وقوامها الإيجابية وغايتها دفع السلبية والإحباط بعيداً من الأجواء.
لكن صناعة الأجواء لا تقتصر على ما يرد في وسائل الإعلام، بل يمكن القول إن مكونات هذه الأجواء – منذ ما يزيد على عقد من الزمان – باتت أكثر تنوعاً وكذلك تنافراً. منذ أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، وقبلها بقليل، والمصريون يذوقون ويجربون ويتنقلون بين مصادر مختلفة من المعلومات والأفكار والأخبار (بأنواعها ودرجات صدقيتها المختلفة) ويصنعون جانباً لا بأس به بأنفسهم. هذه المصادر فيها التقليدي والجديد وما بينهما من تقليدي في صورة جديد، وجديد في صورة تقليدي.
المواطنون يتبادلون “الأخبار” في ما بينهم طوال الوقت. “أقالوا وزير التموين”، “لماذا؟”، “لأنه غير قادر على السيطرة على أسعار البيض”. “أعلنوا أن الجيش سيتدخل ويجعل الدولار بـ15 جنيهاً”، “عظيم. ليته تدخل من بداية الأزمة”، و”الأخبار” تتطاير كالشرر.
من هذا الشرر المتطاير ما يندرج مباشرة تحت بند إشاعات يجري ترويجها، ومنها ما يشبه لعبة “تليفون مكسور” حيث يتداول الناس خبراً معاداً تدويره، وفي كل مرة يتم تناقله يضيف الناقل إضافاته الشخصية حتى يتحول في نهاية الأمر إلى كذبة كبرى أو أسطورة مضحكة.
سيولة خبرية
لكن ما هو غير مضحك، بل مؤسف هو السيولة الخبرية والتحليلية التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة واستشعارها من دون الحاجة إلى دراسات استقرائية أو معايير استطلاعية.
“صندوق النقد الدولي يتوقع تصاعداً مستقبلياً لمؤشرات الاقتصاد المصري” والصندوق نفسه “يخفض توقعاته الخاصة بالاقتصاد المصري”. وقرض الصندوق “يعزز الاستقرار والثقة في الاقتصاد المصري”، كما أنه “يضع مسماراً إضافياً في نعشه”. وبعيداً من القرض المتنازع على حسن سيره وسلوكه، وأثره المتأرجح بين الفوائد العظيمة والأضرار الرهيبة، فإن أسعار السلع الرئيسة، لا سيما الغذائية، يجري ضبطها وتخضع للمراقبة وتطرح بكميات وفيرة بأسعار مخفضة، لكنها أيضاً فلت عيارها وتشطح على مدار الساعة من دون ضابط أو رابط.
الرابط الوحيد في ما يتلقاه المصريون ويبثونه من أخبار وأشباه أخبار وتحليلات وتوقعات هو أن الاقتصاد وأزمته الحالية وأبعادها المتوقعة يجمع بينها، لكن ما جمعه الاقتصاد يفرقه الإنسان الذي يعاني شح المعلومة ويتجرع مرارة السيولة الخبرية. الميل الكبير في وسائل الإعلام المصرية لتناول قضايا الاقتصاد بحرص بالغ يؤثر أحياناً في عمق المعلومة ويفقد التحليلات الاقتصادية صدقيتها لدى المتلقين المتلهفين على خبر يقين يهدئ من قلقهم ومعلومة موثقة تساعدهم في اتخاذ القرار وتحليل علمي يساعدهم في التخطيط بحدود الإمكان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إمكانية المضي قدماً في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة والآخذة في التغير والتذبذب بسرعات كبيرة لم يعهدها المصريون من قبل من دون الوقوف على أرض معلوماتية صلبة لا تخلو من شروح واقعية مبسطة وتوقعات علمية محققة أمر بالغ الصعوبة. حتى المواطنون البسطاء ممن لم يشغلوا بالهم يوماً بفهم معنى الركود وأبعاد سعر الصرف ومعايير التضخم وشروط القروض وفوائد البنوك وغيرها من المفردات والمفاهيم الاقتصادية المعقدة، تحولوا هذه الآونة إلى مستهلكين شرهين ومساهمين في عمليات إعادة تدوير كل ما يثار عن الاقتصاد، هذا الميل الشعبي الجارف للمعرفة ذات الطابع الاقتصادي دفع كثيرين بعيداً من المصادر التقليدية للمعلومات في أوقات الأزمات. نشرات الأخبار المحلية لم تعد تشفي الشره المعلوماتي، وبرامج الـ”توك شو” قل ما تجيب عن الأسئلة البسيطة التي تشغل بال المواطنين بدءاً بشرح ما يجري، مروراً بأسبابه، وانتهاء بتوقعاته.
أخبار الأزمات
الإعلامية المصرية حنان شومان تقول لـ”اندبندنت عربية” إن “عدم توافر المعلومات أمر سيئ في الأحوال العادية، لكن حين تكون الأوضاع صعبة كتلك التي يعيشها المصريون حالياً بسبب الأزمة الاقتصادية فإن الأمر يصبح خطراً. ومكمن الخطورة ليس فقط اللجوء لوسائل ومنصات بديلة يختلط فيها الخبر بالإشاعة، والحقيقي بالمسيس، لكنه في اهتزاز الثقة الذي قد يسبب شرخاً كبيراً”.
وتضيف شومان أن المواطن المصري البسيط الذي لم يشغل باله يوماً بأسعار العملات الأجنبية في مقابل الجنيه، أو نسب التضخم ومعدلات الركود، الذي لا يملك بالضرورة ثقافة اقتصادية، لا يبحث عن مصدر موثق للخبر والمعلومة، يعتمد حالياً على ما يعيشه يومياً من مؤشرات اقتصادية حاسمة وصادقة وغير قابلة للتشكيك نابعة من رحلته اليومية للسوق.
تقول: “حين يدفع المواطن سبعة جنيهات في ساندوتش الفول بدلاً من جنيهين أو ثلاثة جنيهات في حزمة الجرجير بدلاً من جنيه، فهو يعرف أن هناك أزمة اقتصادية كبيرة، لذلك بغض النظر عما يقوله صندوق النقد الدولي، وطريقة كتابة الأخبار الاقتصادية بشكل يجعل الصورة تبدو وردية، والاكتفاء بالجانب التحليلي للأوضاع من أن الاقتصاد يجري تصحيح مساره وغيرها، فإن المواطن العادي يكتفي في هذه الحالة بمصدره الشخصي للمعلومة ألا وهو أسعار سوق الخضراوات وقدرته الشرائية الآخذة في الانخفاض. حياته اليومية تنبئه أن الأمور صعبة”.
الأمور الصعبة في العالم كله لا تخفى على أحد، وشرح أسباب الصعوبة وتقديم حزم المساعدات وعرض توقعات المستقبل القريب أمور تتبعها عشرات الدول في ضوء الوضع الاقتصادي العالمي الذي يعصف بدول كثيرة في أعقاب الوباء ثم حرب روسيا في أوكرانيا.
تهديد المجتمعات
الأزمات الاقتصادية من أخطر التهديدات التي تواجه المجتمعات. وتشير ورقة بحثية لأستاذ الصحافة في جامعة النهضة أبوبكر حبيب الصالحي بعنوان “تعرض الجمهور المصري للوضع الاقتصادي كما تتناوله المواقع الإلكترونية للصحف المصرية والإحساس بالخطر المجتمعي” (2017) إلى أن أية أزمة اقتصادية تمس الكيان الداخلي وتهدد أمن المجتمع واستقراره. وعند حدوث هذه الأزمات، تستنفر الحكومات طاقاتها وجهودها لمحاصرتها والتقليل من آثارها. وتعد هذه الأزمات حالات استثنائية تتكامل فيها الجهود الرسمية السياسية والأمنية مع برامج التغطية الإعلامية لتقديم المعلومات للرأي العام عن طبيعة الأزمة والخسائر المترتبة عليها وتنوير جمهور الوسيلة الإعلامية بالأخطار والآثار وتشكيل رأي عام تجاه الأزمة.
عالم الاجتماع الألماني الراحل أولريك بك أشار في كتابه “مجتمع المخاطرة: نحو حداثة جديدة” (1986) إلى أن عديداً من الأزمات التي تواجه المجتمعات الحديثة قد ينتج منها نتائج كارثية ومدمرة. ويكمن الخطر في أن هذه النتائج تكون أحياناً غير مرئية، لذلك تحدث من دون أن يشعر بها الناس. ويشير بك إلى أن نشر الوعي بالأزمة والمخاطر التي قد تنتج منها هي مهمة الإعلام وهي مهمة حتمية ولا بديلاً عنها. وخرج بك بنظرية قوامها أن التهديدات المجتمعية تتحكم فيها العلاقة بين وسائل الإعلام ومجتمع المعلومات. كما أن الإشكالية تنتقل كذلك إلى القائمين على إنتاج مفاهيم وتعريفات الأزمة وكذلك المستهلكين لهذه المفردات.
المفردات جزء من الأزمة
المفردات المستخدمة في الأزمة الحالية ليست وحدها المشكلة، لكن الأزمة تكمن في ما يحصل عليه المواطنون من معلومات يكونون على أساسها رأياً عاماً من جهة، وتمكنهم من تنظيم حياتهم من جهة أخرى.
تقول حنان شومان إن الأوضاع الإعلامية عام 2023 تختلف كثيراً عنها في الستينيات مثلاً، وما كان يمكن اعتباره مصادر كافية للمعلومات أو محتوى لا بديل له لم يعد وارداً في ظل العصر الرقمي وهيمنة الإنترنت وما يحويه من كم مذهل من المعلومات حتى لمن لا يقرأ أو يكتب. تقول: “لم يعد الوصول إلى معلومات وأخبار وتحليلات حكراً على معرفة المستخدم بقواعد البحث والوصول إلى مصادر موثوق فيها. الكم المذهل المتاح من الفيديوهات والتحليلات جعل الأمور أبسط وأخطر. تكمن بساطتها في سهولة الوصول إليها، أما خطورتها ففي سيولتها واختلاط الخبر بالإشاعة بالمعلومة الخام بالمعلومة المسيسة.
وأصبح لكل مستخدم قائمة من الأسماء أو المصادر المتاحة على منصات التواصل الاجتماعي التي يلقى ما تبثه من معلومات أو تحليلات قبولاً لديه، فبات يعتبرها وسائل إعلامه الخاصة به. وتضيف شومان أن “بعضاً ممن يقدمون المحتوى على السوشيال ميديا يجيبون عن أسئلة المستخدمين فيقدمون لهم ما يريدون وما يناسب هواهم لا سيما أن المجيب على دراية كاملة بمشكلات السائل وحاله النفسية وطبيعة المعلومات التي يبحث عنها. وهذا أمر بالغ الخطورة لأن هذا النوع من مصادر الأخبار يتصاعد في ظل غياب المعلومات المفيدة من مصادرها، إضافة إلى أنه يعظم من حجم عدم الثقة في وسائل الإعلام الرسمية أو التقليدية أو كليهما”.
الجهود “الإعلامية” التي يتبرع بها بعضهم ظناً منهم أنهم يسهمون في إشاعة الطمأنينة ونشر الشعور بالأمان ينتج منها أحياناً ردود فعل عكسية، بعضها يأتي في صورة غضب وبعضها الآخر يتفجر سخرية.
التوكل على الله
والحقيقة أن جهود “الطمأنة” الإعلامية والنفسية كثيرة، ولكن يبدو أن ما يبتغيه كثيرون هو جهود الطمأنة المعلوماتية والاقتصادية. قبل ساعات أطل عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الشيخ خالد الجندي على المشاهدين عبر البرنامج التلفزيوني “لعلهم يفقهون” ليحدثهم عن ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه المصري وتأثير ذلك في أسعار السلع. الجندي اختار نهج اللوم للطمأنة، فقال لائماً من يشغلون أنفسهم والآخرين بسعر الدولار: “حكاية سعر الدولار مأثرة على ناس لا علاقة لهم بالدولار. الواحد يتعجب من أشخاص يتكلمون عن الدولار. الدولار زاد ولا نقص، لا علاقة لهم بذلك”.
وأكد الشيخ أن ارتفاع أسعار السلع يعود لسببين، أولهما الأزمة الاقتصادية العالمية وتأثيرها في السلع، والثاني هو جشع بعض التجار الذين يتربحون من الأزمات ويحاولون ربط كل ما في الدنيا بالدولار. وعرج مجدداً إلى من يتجرؤون بالحديث عن الدولار قائلاً: “الجميع يتحدث عن الدولار، أصبح حديث الشارع. طيب ما تكلمونا شوية (قليلاً) عن الصبر والاجتهاد والتحمل والشغل والتضامن الاجتماعي، وعن أننا نتقي الله في الأسعار وأحوال الناس. أكثروا من التوكل على الله، والله المستعان على ما تصفون”.
وفي سياق آخر تكثر الأخبار والتغطيات الإعلامية الخاصة بمعارض “أهلاً رمضان” التي يتم تنظيمها كل عام في مناسبة شهر رمضان المبارك لبيع السلع بأسعار مخفضة، لكن هذا العام جاء “أهلاً رمضان” في جمادى الآخرة، وهو ما فسره بعضهم كذلك في ضوء جهود الطمأنة.
رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
الموقع :www.independentarabia.com