رواية إيطالية رسمت مصائر مغايرة للثورة الروسية بتنويعات خيالية


<p>مشهد من فيلم "أوغاد سيئو السمعة" لتارانتينو (موقع الفيلم)</p>
هو نوع أدبي أوصلته السينما إلى ذروة لا سابق لها، ولا سيما هنا سينما المخرج الأميركي كوينتن تارنتينو في فيلمه البديع “أوغاد سيئو السمعة”، حين يتخيل مؤامرة فرنسية لاغتيال أدولف هتلر فيما كان يشاهد العرض الفرنسي الأول لفيلم عن بطولات جندي ألماني في صالة باريسية تديرها مقاومة فرنسية يساعدها شاب أسود، فتمكنا من إحراق الصالة وتخليص العالم من شر الديكتاتور النازي وكبار مساعديه مما وضع خاتمة سعيدة للحرب العالمية الثانية.
وطبعاً نعرف أن ذلك لم يحدث، للأسف، وأن المؤامرة وهمية سينمائية لا أكثر، وأن الحرب ومجازرها تواصلت سنوات أخرى، لكن للفن نظرة أخرى بالطبع، وذلك عبر هذا النوع من الخيال التاريخي الذي يسمى ديستوبيا وأبدع فيه تارانتينو من دون أن يكون مبتدعه، ولقد سبقه فيه كثر لعل من أهمهم الأميركي فيليب ك. ديك في روايته الاستثنائية “رجل القصر العالي”، حين يتخيل أن النازيين لم يهزموا في الحرب العالمية الثانية، بل احتلوا الولايات المتحدة وتقاسموها مع اليابانيين، من دون أن ننسى رواية البلغاري إلياس كانيتي التي تخيل فيها أن الحلفاء لم يتمكنوا من القضاء على هتلر شخصياً بل هرب إلى الأرجنتين حيث طارده أربعة شباب يهود وحاكموه.
سياسة وأيديولوجيا
هذا النوع الأدبي بات رائجاً خلال الثلث الأخير من القرن الـ20 وله كتابه ونتاجاتهم التي من المنطقي أن يغلب عليها الطابع السياسي التاريخي، وهي تلقى رواجاً بالنظر إلى أنها تلبي رغبات دفينة لدى أنواع معينة من قراء قد يكون شعارهم الأثير هو “ليت التاريخ يعيد نفسه ويغير مساره لكنا فعلنا كذا وكيت”، وهو شعار يبدو أقرب إلى العزاء منه إلى أي شيء آخر.
ولعل هذا ما يفسر النجاح اللافت الذي حققته رواية إيطالية صدرت في 2017 للكاتب ديفيد أوريكيو بعنوان “الثورة… أبي” وسرعان ما ترجمت يومها إلى عديد من اللغات.
وكان من اللافت أن اليساريين في أوروبا قرأوها ورحبوا بها من دون أن يفعل ذلك القراء اليمينيون الذين كان الأجدر بهم أن يكونوا أكثر ترحيباً باعتبارها، ولو في أوهامهم، “تنقذهم” من تلك الثورة التي أقضت مضاجعهم نحو ثلاثة أرباع القرن ظلت طوالها “شبحاً كريهاً يخيم على العالم”، ونعني بذلك طبعاً، الثورة البلشفية الروسية التي قادها بالتحديد فلاديمير لينين وليون تروتسكي وانتهت مع نهايات القرن الـ20 إلى الهزيمة الشاملة وبئس المصير.
المصير محتم والرواية حرة
والحال أن رواية أوريكيو لا تغير من “مصير” الثورة الروسية كما سيتجلى مع انفراط الكتلة الاشتراكية وزوال الاتحاد السوفياتي الذي كان نتيجتها الكبرى بل حتى مأساتها المريعة بحسب ما يرى بولشفيو العالم، بل اكتفت بالعودة إلى السنوات الأولى لتضع تصورات لمصير الثورة والثوار لا يقل عددها عن 12 تصوراً تختلف نهائياً عما حدث فعلاً، لترسم أحداثاً تصور بدورها مصيراً للعالم مغايراً لما حدث حقاً، بل حتى دزينة من المصائر لعل أبدعها تلك التي يسودها التفاؤل بمصير العالم على ضوء تلك الأحداث المتخيلة.
في نهاية الأمر يوضح الكاتب، والصحافيون الذين تناولوا روايته هذه بالنقد والتعليق، الإيجابيين غالباً، أن كل كاتب لديه في تصوراته وهو يبدع عملاً متحرراً من واقعية التاريخ الحقيقي، تسوده احتمالات عديدة يمكنه أن يخوض فيها وينقلها إلى قرائه، من دون أن يلومه لائم، أو يكذبه أحد قائلاً له إن ما يرويه لم يحدث في مجرى التاريخ.
هو سيجيب إن قال له قائل إن ما من شيء مما يرويه قد حدث حقاً: من قال لكم إنني أدعي ذلك؟ كل ما في الأمر أنني أكتب عملاً تخيلياً على قاعدة أحداث حقيقية بالفعل، لكني كنت أتمنى لها أن تحدث بشكل مغاير وها هي ذي روايتي تصور ذلك كما تخيلته، ولكم أن تقرأوا ما كتبته كما لكم أن ترفضوه، ففي نهاية الأمر من المؤكد أن ما يضمه كتاب أوروكيو إنما هو رواية لا أكثر ولا أقل.
ترفيه أم حسرة على الماضي؟
المهم هنا هو أن حتى هذا البعد التخييلي إنما تسيطر عليه الأيديولوجيا أولاً وأخيراً، بالنظر إلى أن الكاتب حتى ولو كان يتخيل أحداثاً همه من خلالها الترفيه عن قارئه، إنما يرسم صورة “صادقة” من منظوره، لرغبات سياسية أيديولوجية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الواضح هنا أن تلك الرغبات والتعبير عنها هي ما حفز القراء اليساريين إن جاز لنا هذا القول، لتحبيذ “الثورة… أبي” والنظر إليها ليس على أنها تخييل تاريخي، بل إمكانية أيضاً لتخيل التاريخ الحقيقي وكأنه جرى على هذه الصورة، فما هذه الصورة؟ وما التصورات البالغ عددها، في نهاية المطاف، دزينة من الاحتمالات جعلها الكاتب محور روايته الديستوبية هذه؟
الحقيقة أن في مقدورنا أن نجمل القول في المقام الأول بأن هناك ذلك التصور بأن كلاً من لينين وتروتسكي قد تصرف ولعب دوراً يختلف إلى حد بعيد عن الدور التاريخي الذي لعبه بالفعل، وذلك من المنطلق المبدئي التخييلي الذي يعتمد على الفكرة التي تعطي الكاتب حرية أن يتخيل ما يشاء ويكتبه.
والجانب الأساس منها هنا في حالة هذه الرواية هو أن الكاتب يتدخل في مجريات التاريخ مباشرة مقترحاً فرضيات “كان يمكن أن تحدث في الواقع لو أن…” وهي الفرضيات التي تنطلق غالباً، وكثيراً ما تنطلق في هذه الرواية تحديداً من الوثائق والشهادات الحقيقية متسائلاً عما كان سيمكن للأمور أن تكون عليه لو أن تروتسكي، على سبيل المثال تصرف تجاه ما قام به لينين ذات لحظة بشكل مغاير لما تصرف به حقاً.
وهنا يقترح الكاتب علينا أن تروتسكي لو أحدث ما يناقض ما قام به فعلاً لكان شأن العالم وتاريخه كله في القرن الـ20 مغايرين تماماً لما سار عليه مجرى التاريخ الحقيقي.
ويرى الكاتب هنا أن ذلك كان من شأنه أن يكون حقيقياً في ثانية واحدة من شأنها أن تبدل مجرى التاريخ تبديلاً جذرياً.
تبديلات لا تنتهي
وليس مرة واحدة فقط، بل تلك الدزينة من المرات التي يتابعها الكاتب، وفي كل مرة تقريباً انطلاقاً من نقاش مفاده أن إهمالاً أو رغبات سياسية خفية عبر عنها قائدا الثورة من خلال تصرف غالباً ما يكون مبهماً ولا يمكن لأي منطق تفسيره ولو حتى على ضوء نزعات شديدة الذاتية، كان من شأنه أن يبدل مجرى التاريخ.
وهكذا تتوالى الأمور خلال تلك الدزينة من المرات، من ثم خلال تلك الدزينة من التصرفات التي كان أمام لينين وتروتسكي إمكانات عديدة واحتمالات كثيرة يتمكنان من خلالها من تغيير مصير العالم، ولكن هل كان من شأن ذلك التغيير أن يكون نحو الجيد من الأمور أو السيئ منها؟
الحقيقة أن ليس ثمة في هذا العمل الروائي ما يجيب حقاً عن مثل هذا السؤال، وهنا بالتحديد، ومرة أخرى، لأننا أمام عمل روائي لا أمام عمل وعظي أو نص تاريخي ولا أمام كتاب همه “التحسر على الماضي الواقعي وعلى ما حدث فيه”، بل أمام رواية همها أن تفترض أن التاريخ غالباً ما يسير تبعاً لاحتمالات هي جزء من عدد كبير من المسارات، وتلكم هي غاية الكاتب من دون أن تكون له غاية أخرى أكثر وعظية.
ومن هنا يبدو النقد الإيطالي محقاً حين رد على الذين وسموا الرواية بأنها في حقيقتها “كتاب سياسي بل أيديولوجي إلى أقصى الحدود” قائلاً “بل إن السياسة لا يمكنها أن تكون هنا أكثر من زينة أو ديكور” كما كتب ناقد ملحق “الجمعة” الصادر عن صحيفة “لا ريبوبليكا” اليسارية الإيطالية من دون أن تكون شيوعية بالتأكيد، إذ انتقد كل أولئك الذين رأوا أن ما أمامهم ليس سوى نص يريد أن ينقذ سمعة الثورة البولشفية الروسية من ذلك المصير الذي أوصلها إليه ستالين لكنه، وبحسب وجه من وجوه الرواية، يجد جذوره لدى قائدي الثورة الحقيقيين اللذين يبدوان لنا في الرواية شخصيتين شكسبيريتين بامتياز.
رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
الموقع :www.independentarabia.com