عرض "ديستوبيا" يُمسرح أحوال مشرّدي الحرب السورية


<p class="rteright">مشهد من مسرحية "ديستوبيا" في دمشق (خدمة الفرقة)</p>
نادراً ما يحظى نص مسرحي عربي بتحقيق عروض متعددة في أكثر من بلد، لكن ما نجح فيه نص “المزبلة الفاضلة” للكاتب السعودي عباس الحايك كان لافتاً على هذا الصعيد. فبعد تقديمه في السعودية والمغرب والكويت والعراق والأردن برؤى إخراجية مختلفة، ها هو النص يجد طريقه أيضاً إلى عروض “فرقة المسرح القومي” في دمشق. النسخة السورية من النص السعودي جاءت هذه المرة تحت عنوان “ديستوبيا”، وبتوقيع المخرج مأمون الخطيب.
يروي العرض حكاية خمس شخصيات التقت في مكان أقرب إلى مزبلة، لتتعامل مع كل ما تم تصنيعه من قمامة ومخلّفات الأحياء المجاورة كحيزٍ سكني لها. الأثاث والمدرجات الصغيرة والبراميل والكتب والملابس والصناديق، جميعها عملت مصممة الديكور ريم الماغوط على توزيعها في مسرح الحمراء الدمشقي على هيئة بيت في العراء، وأشبه بالمكان الذي عاشت فيه شخصيات مسرحية “الحضيض” لمكسيم غوركي (1868-1936). باختصار هي جبّانة لفظت بشرها، وعملية إعادة تدوير لما تركته الحرب في مدينة يسودها القمع والجهل والظلم والعتمة. المعنى المباشر لمعنى كلمة “ديستوبيا” حول مفهوم المدينة الفاسدة، والتي حاول مخرج العرض مقاربتها في الظرف السوري الراهن من دون الدخول في تفاصيل مباشرة.
إيحاءات مسرحية
تبدأ الأحداث الفعلية للعرض بتدريب الممثل رامي خلو للمتشرد إبراهيم عدبة على مقاطع من مسرحيات “ريتشارد الثالث” لشكسبير و”جثة على الرصيف” لسعد الله ونوس، وصولاً إلى تجسيد مقاطع من رواية “دون كيشوت” لسيرفانتس. تجري هذه التدريبات بين الأنقاض والنفايات بحس كوميدي مرح، وتتخللها مفارقات ساخرة، لا سيما بعد إخفاق الشاب المتشرد في فهم تعليمات رفيقه على الأداء، لتتحول تدريباتهما من مشاهد تراجيدية إلى فقرات كوميدية سوداء. تتوقف البروفة المرتجلة وتتداخل مع حوار كلٍ من شخصية الكاتب (إبراهيم عيسى) والمتشردة (رنا جمول) شريكي الشابين في السكن والإقامة، واللذين لا يتورعا عن تقديم مرافعاتهما عن ماضيهما القاتم، لكن من دون الوقوع في فخ الميلودراما واستجداء التعاطف. فأحداث العرض ترسمه شخصياته بالحديث عن ماضيها، وتقديم ما يشبه مراجعة مريرة لهذا الماضي، ثم لا تلبث أن تعود لتجسيد مقاطع من مسرحيات عالمية تتقاطع مع قصص شخصية لكل منهم.
ووفقاً لأسلوب المسرح داخل المسرح، نجح العرض في تقديم مستويين من الأداء، وعمل على ترميز محكم لشخصياته. فالممثل رفض العمل في مسلسلات التلفزيون كي يظل وفياً للمسرح، فانتهى إلى العيش في مكبٍ للنفايات. والكاتب الذي ظل متأثراً بأفكار الفيلسوف الألماني نيتشه انتهى إلى العيش بين الأنقاض بعد أن رفض ذبح شقيقته بداعي الشرف. والمتشرد الذي نزحت عائلته عن بيتها ترك شقيقه الأصغر لمصير مجهول، أما المرأة المتشردة فقد كانت ضحية لمكيدة مديرتها في الوظيفة، لتكوّن قناعتها بأن الجميع يحيك مؤامرةً ضدها، فانتهت أيضاً إلى الإقامة في مزبلة، تستمع فيها إلى أغنية أسمهان “ليالي الأنس في فيينا” عبر أثير راديو خرِب وجدته بين أكوام القمامة.
مفارقات درامية
مفارقات لا تنتهي حتى تعود وتبدأ من جديد مع اضطرام المنافسة بين شخصيتي المتشرد والممثل، على قلب فتاة تسكن بالقرب منهما. ومع وصول شخصية القشاش (غسان الدبس) زعيم النباشين وملك المزابل إلى المكان، يهرب الجميع ويختبئون في براميل القمامة، ليخبرهم القشاش بأن الحكومة قررت إزالة “سكنهم” والجرافات تحاصرهم من كل حدبٍ وصوب. لكنهم يرفضون المغادرة، وبدلاً من النزوح عن مزبلتهم يقررون الاحتفال بهذه المناسبة، وإشعال شموع قالب من الحلوى، كانوا قد وجدوه هو الآخر في برميل قمامة أجدى الأسر الموسرة، لينتهي العرض بصوت الجرافات يعلو من جديد، وإضاءة المكان تنطفئ لتبقى شموع المحتفلين هي الضوء الوحيد في مدينة بلا كهرباء، ولعل أكبر مفارقة في العرض هنا كان انقطاع الكهرباء عن مسرح الحمراء، ومواصلة الممثلين تقديم عرضهم على ضوء القناديل، في إسقاط مباشر على ما يحياه السوريون اليوم من ظروف معيشية قاسية.
ومع أن النسخة السورية من “المزبلة الفاضلة” استبدلت بشخصية نسائية شخصية عامل الكهرباء في النص الأصلي، إلا أن العرض وجّه نقداً لاذعاً ضد تيار النسوية العربية، وسلط الضوء على قضية تسلط النساء على النساء في أماكن العمل والوظيفة من خلال شخصية المرأة المتشردة. واستغنى في هذا السياق عن دراما ذات ذُرى فرعية ورئيسية، ليبقى الخطيب على لسان حال الشخصيات ومشاحناتها اليومية، كمادة جوهرية في تصعيد الصراع في ما بينها، وتأليب جملة من مواقف وجدل كلامي بين الشخصيات. ونجح أداء الممثلين الحار في إبقاء جذوة العرض مشتعلة طوال ساعة من الزمن، والتعويل أكثر فأكثر على السخرية المريرة من الواقع، والتهكم عليه بطريقة كاريكاتورية لا تخلو من استعارة شخصيات مسرح العبث، ولا سيما نص “نهاية اللعبة” لصموئيل بيكيت (1906-1989)، حيث تعيش شخصيتا الأب والأم داخل براميل القمامة، وتنتظران نهاية لا تأتي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حافظ “ديستوبيا” بالقدر نفسه على صيغة فنية متوازنة في عناصرها الجمالية، فعلى صعيد تصميم السينوغرافيا سيطر مخرج العرض على الفضاء، جاعلاً من الإضاءة (بسام حميدي) مرتكزاً أساسياً في توزيع كتل الديكور المتناثرة على الخشبة. وذلك من خلال نوافذ وشرفات تعلو مساحة اللعب، فأوحت للمتفرج بأبنية مدينة دمشق التي تطل على مكب للنفايات والأنقاض. وساندها في ذلك التنويع في المناخات الموسيقية (محمد عزاوي) لتجزئة مجريات العرض، والانتقال بأحداثه إلى دراما لا تتطور أحداثها بسهولة، بل تتكئ على ثنائيات تتشارك ظرفها الصعب، وإيمانها بالحياة كورطة لا ينجو منها أحد.
لم يقدم “ديستوبيا” المزبلة هنا على أنها المكان الآثم والملطخ بالقاذورات وفضلات البشر، بل انتصر ساكنوها لـ “مزبلتهم الفاضلة”، واعتبروها المكان النظيف الوحيد وسط مدينة ملوثة بالفساد والظلم والخوف والجوع. مقولة النص السعودي حافظ عليها مخرج العرض ومعدُّه، مشتغلاً مع ممثليه الخمسة على كتابة أدوارهم عبر الارتجال في زمن البروفة، بما يشبه ورشة مفتوحة لجعل النص ملائماً للظرف السوري الراهن. وقدّم نقاشاً فنياً مفتوحاً عن واقع المشردين السوريين الذين يعيشون منذ سنوات بلا مأوى بعد تهجيرهم من بلداتهم وقراهم ومدنهم. وهذا ما فتح الباب واسعاً أمام العرض لطرح أسئلة حول مصير هذه الفئة من البشر في زمن الحروب والأزمات الوطنية الحادة. فقضية “الهومليس” السوريين ذات شجون عدة، لا سيما بعد إمكانية ازدياد أعدادهم أخيراً مع انعدام فرص العمل وتدني الخدمات الاجتماعية، مما يجعل من عرض “ديستوبيا” بمثابة نداء استغاثة، ومحاولة من المسرحيين السوريين في لفت الانتباه إلى هذه الشريحة من الناس في بلادهم.
رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
الموقع :www.independentarabia.com