في الخوف من الأخت الكورية


<p>صدر أخيراً كتاب (الأخت) للباحث صانج يون لي المقيم في الولايات المتحدة (أ ف ب)</p>
كوريا الشمالية، ما الذي نعرفه حقاً عن هذا البلد؟ ماذا عدا أخبار أشبه ما تكون بالنكات، ونكات أشبه ما تكون بأفلام الرعب، وتقارير إخبارية أورويلية لا يتوقف تيارها عن الجريان، وتحالفات سرية ومعلنة مع طغاة ومستبدين، وتهديدات تليق بتمرد المراهقين أكثر منها بإدارة الدول والبلاد حتى المارق منها؟ ماذا نعرف عن ذلك البلد غير علاقاته المضطربة بشقيقته الجنوبية، وجارته اليابانية، وغريمته الأميركية من قبل ومن بعد؟
لا أحسب أننا نعلم كثيراً، ولكن حتى القليل الذي نعلمه، معظمه لا يأتينا من البلد نفسه، ولكن من أعدائه وإعلامهم؟ إذاً ها هو بلد يعيش معنا في القرن الـ21، لكنه بطريقة ما مغلق، لا تخترقه شبكة الإنترنت الحاضرة في كل بقعة من الكوكب، بعيد كأنما لم تخترع بعد طائرات، غامض، خفي، مثير للفضول.
لقد جربت شخصياً على مدار السنين الماضية، فحاولت أن أعرف مباشرة عن كوريا الشمالية، ما الذي يجري هناك حقاً، كيف هو شكل الحياة اليومية لشعبها، ما الأدب الذي يكتب أبناؤها، ما الذي يقوله المعارضون أو يكتبونه؟ وانتهيت أخيراً إلى أن “غوغل” لا يعرف كل شيء، وبشكل ما كان مريحاً أن يخذلني محرك البحث العالمي.
تكتب راشيل أسبدين في “غارديان” في 10 يونيو (حزيران) 2023، أن كوريا الشمالية ليست فقط القوة النووية الأكثر مروقاً في العالم “لكنه أيضاً بلد ديكتاتوري شيوعي وراثي، قطعة من الظلام في قلب بحر النور الليلي بشرق آسيا، ثالث ثلاثة في (محور الشر) الذي أعلنه الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، دولة أكبر قليلاً من ولاية أوهايو الأميركية، لكنها تمتلك رابع أضخم جيوش العالم، مملكة معزولة لا يملك قدرة الاتصال بالإنترنت من شعبها المروع المستغل إلا أقل من واحد في المئة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي مواجهة التعتيم المحيط بهذا البلد، اختار الغرب الحل الأسهل أي “السخرية، إذ يصعب أن نتخيل نظام حكم نووي منتهك لحقوق الإنسان آخر يتحول إلى خلفية لأفلام كوميدية في هوليوود”، تعدد راشيل أسبدين بعضها مما يقدم لذلك البلد صورة هزلية ربما تحقق عائدات ضخمة في شباك التذاكر، لكنها لا تعالج جهلنا العميق بذلك البلد.
الدعاية لا تكفي
وليت الأمر اقتصر على كل ذلك القدر من العزلة والانغلاق. تكتب آنا فيفيلد، محررة شؤون آسيا والمحيط الهادئ في “واشنطن بوست”، أن كوريا الشمالية ازدادت عزلة على عزلة “فلا يكاد العالم يعرف شيئاً عما يجري فيها منذ ثلاث سنوات ونصف السنة حينما أغلق البلد حدوده مع الصين بسبب انتشار فيروس كورونا. وفي ظل أنه ما من تجار أو دبلوماسيين أو صحافيين أو عمال إغاثة يدخلون البلد أو يخرجون منه، أو منشقين يهربون من الشمال إلى الجنوب، يكاد أن يكون مصدر كل ما نعرفه عن كوريا الشمالية منذ ذلك الحين هو دعاية بيونغ يانغ”.
لكن، حتى “دعاية بيونغ يانغ” هذه لا تكاد تصل إلينا قياساً إلى طوفان الدعاية الغربية الأميركية تحديداً، فهذه في تقديري هي مصدر أكثر ما نعرفه عن كوريا، ولا أعتقد أن الكتاب الذي بين أيدينا استثناء من ذلك.
صدر أخيراً كتاب (الأخت) للباحث (صانج يون لي) المقيم في الولايات المتحدة والأستاذ بجامعة تافتس، وهو لا يشذ عما يجري عليه معظم ما يصدر عن كوريا الشمالية من كتب أو تقارير، لكنه على حد تعبير راشيل أسبدين يمتاز بكونه “دراسة عميقة مفصلة تحاول (فضح هذا التدني الذي يشارف حدود العنصرية) في التناول الغربي لأخبار وأحوال كوريا الشمالية”. ومحور الكتاب المفترض هو أحدث النجوم الصاعدة في عائلة كيم الحاكمة، وتلك هي (كيم يو يونغ) الأخت الصغرى للزعيم الحالي. يحاول الكتاب من خلال تركيزه المفترض عليها أن يحلل حاضر بلدها الغريب، ومستقبله المحتمل، بعيداً من عناوين الأخبار البشعة”.
تكتب راشيل أسبدين أن الأخت، وهي الآن في منتصف الثلاثينيات، قد أصبحت “على مدار العقد الماضي الشخصية التالية للزعيم الكوري الشمالي من حيث السلطة والنفوذ، بل إنها خليفته المحتملة، وذلك أمر مثير للجدل في مجتمع بطريركي صارم”.
ولعل من أغرب ما يكشف عنه هذا الكتاب لي هو موقف المجتمع الكوري من المرأة، وعدم تقبله لها في مناصب القيادة، فقد كنت أتصور أن هذه الفرية مخصصة للمجتمعات الإسلامية والعربية دون غيرها تقريباً، لكن كثيراً من المقالات التي تناولت (الأخت) تشير الرفض الشعبي النابع من الكونفشيوسية للمرأة، علاوة على مثل هذا الرفض للشباب أيضاً، فالصدارة في ذلك المجتمع وتلك العقيدة غير مستحقة في ما يبدو إلا للرجال دون النساء، وللكبار دون الشباب.
غير أن “الأميرة” الكورية الشمالية ـ على حد تعبير راشيل أسبدين – تمثل “رأس ذراع الدعاية للنظام الحاكم، والقيادة شديدة البروز للسياسة الخارجية، وصورتها الشائعة التي تقوم لا محالة على عناصر الفتنة والكاريزما، مختلطة بعناصر القوة السادية الكامنة وراء العرش”.
جذور الصدمة
كتاب (الأخت) في رأي أسبدين ـ الذي يعارضها فيه البعض ـ لا يكتفي بإعادة تدوير هذه المواد الشائعة حول كيم يو يونغ، وإنما يبرز جذور الصدمة التي أحاقت بكوريا على يد كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عند تقسيمهما أرضها في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.
“حدث في 11 أغسطس (آب) 1945 أن انكب ثلاثة ضباط أميركيين على خريطة صغيرة لشرق آسيا منشورة في (ناشيونال جيوغرافيك)، وقرروا على نحو لا يرقى إلى أن يوصف بالمنهجية أن دائرة العرض الـ38 الممتدة من الشرق إلى الغرب قاطعة شبه الجزيرة هي الخط الشمالي الأقصى الذي يحتمل أن يقبل به ستالين”. وإذا بذلك الخط الحدودي المرسوم على عجل بين الشمال والجنوب يطلق شرارة حرب كورية ويختم على مصير شبه الجزيرة جاعلاً منها إلى الأبد ساحة معركة بالوكالة بين القوتين العظميين المتنافستين. وعندما وقع اختيار السوفيات على كيم إل سونغ ـ قائد حرب العصابات السابق والميجور في الجيش الأحمر والمجيد للغة الروسية ـ كي يقود جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية الجديدة، بات مستقبلها مرتبطاً بمستقبل (سلالة جبل بايكتو) الذي يترأسه اليوم حفيد ذلك الميجور”.
خلقت الأسطورة اللازمة أسرة حاكمة شبه إلهية من العدم مبنية على الكذب وإخفاء المعلومات، ويبرع الكاتب (صانج يون لي) في تصوير “اعتماد النظام الحاكم على قمع المعلومات وتشويهها والتلاعب بها”، فيكتب أن “كوريا الشمالية دولة أقيمت على التزييف الوقح الصارخ”، فمن الحقائق غير المكتوبة مثلاً أن أبوي كيم إل سونغ كانا مسيحيين، وأن والدة كيم يونغ أون من مواليد اليابان، وأن خالته هربت إلى الولايات المتحدة، وكل هذه “جرائم” كفيلة بالزج بأسر عادية كاملة من كوريا الشمالية في السجون أو إعدامها عن بكرة أبيها.
“وهناك، من بعد، نمط الحياة الشهير الذي تنعم به الأسرة الحاكمة بينما يعاني بقية الشعب الفقر والجوع، بل إن الكاتب يذكر حقيقة كاشفة، دون أن يتمهل عندها طويلاً، وهي أنه درس في مدرسة دولية في سويسرا، وأن زميله فيها كان الأخ غير الشقيق للزعيم الكوري الشمالي الحالي”.
“وفي حين أن البروباغندا، الخاضعة حالياً لإشراف الأخت كيم يو يونغ هي السلاح الأثير لدى النظام الحاكم للقمع الداخلي والهجوم الخارجي، فإن ترسانته النووية ـ التي يطلق عليها كيم يونغ أون (السيف المكنوز) ـ هي الضامن النهائي. على مدار الأشهر الـ18 الماضية، قام النظام بتصعيد دراماتيكي في خطابه العدواني واختباراته لأسلحة محظورة، وكلاهما أداة ابتزاز معتادة في عديد من المبادرات الدبلوماسية الفاشلة التي كان (لي) مستشاراً فيها لعديد من الإدارات الأميركية المتعاقبة، ومن ثم فهو يقدمها بتفاصيلها.
أما سرده الناصع للمفاوضات السوريالية العصيبة مع النظام الكوري فتبرز رسالة الكتاب الأساسية، “وهي أن كيم يو يونغ تمثل إلى حد بعيد للغاية جزءاً أصيلاً من الأسرة الحاكمة، وحتى إذا ما تقدمت خطوة لتصبح أول امرأة تتزعم كوريا الشمالية، فإن التغيير لن يأتي على يدها”، غير أن مسألة التمهيد لنقل السلطة إلى الأخت موضع خلاف.
الزوجة والابنة
في استعراضها للكتاب (تشاتهام هاوس ـ 2 يونيو 2023) تقترب آنا فيفيلد ـ وهي نفسها مؤلفة كتاب عن كيم يونغ أون صدر في 2019 ـ أكثر من الجانب النمائمي المنتظر في كتاب عنوانه (الأخت)، بل إن مقالها يتسع لثلاث إناث، لا واحدة: الأولى هي “ري سول جو، زوجة الزعيم الكوري الحالي، وهي مطربة معتزلة تؤنسن صورة زوجها وتضفي عليها السحر”.
“خلال العام الماضي شهدنا الظهور العلني لفرد جديد في الأسرة هو ابنة الحاكم الحالي، ويعتقد أنها تدعى كيم جو آي، وتبلغ من العمر 11 ستة، وجاء ظهورها خلال إطلاقات صواريخ، وكان تصدرها لاحتفال عسكري أمراً غريباً حتى في كوريا الشمالية”، لكونها امرأة، ولصغر سنها، ولمخالفة ظهورها لتقاليد الأسرة الحاكمة التي لا يكاد يعرف الكوريون عنها شيئاً، منذ أن كان حاكم البلاد الحالي طفلاً. وهذه الابنة هي المرأة الثانية.
“أما أبرز النساء الثلاثة فهي كيم يو يونغ، ووظيفتها عملياً ـ بوصفها رئيسة إدارة البروباغندا ـ هي أن تضمن المظهر الجيد لأخيها. ويكتب عنها سونغ يون لي أنها في واقع الأمر (كبيرة الرقباء في بلدها الطغياني، والمتحدثة الرسمية، والمستهزئة، وموزعة التهديد والتخويف والحقد)”.
لم يكن أي من أبناء كيم في الأجيال السابقة يحظى بظهور علني حتى توليه منصباً رسمياً، بل ولم يكن الشعب يراهم، وليس من استثناء لذلك إلا الشقيق الأكبر للزعيم الحالي الذي كان يظهر في الصور خلال حضوره حفلات موسيقية.
و”يزداد الغموض بكون نسل الزعيم الحالي فتاة في ظل نظام كونفشيوسي بطريركي حازم، يخص بالتقدير كبار السن وحملة الكروموزوم الذكري، والتفسير الأرجح لهذا الظهور هو أن الأب يرسي أساس الجيل الرابع من سيطرة الأسرة الاستبدادية”، فبهذا التمهيد المبكر “يضمن كيم يونغ أون أن يتاح وقت كافٍ للنخبة الكورية كي تعتاد على البنت المراهقة بوصفها وريثة. وتمهيد الطريق لهذا الانتقال هو مسؤولية الأخت كيم يو يونغ”.
المرأة الشيطانية
تقيم آنا فيفيلد قراءتها للكتاب على أن الأخت كيم يو يونغ هي المسؤولة عن “تطبيع” فكرة أن المرأة صالحة للقيادة، سواء أهي “المرأة الأولى التي تحتل منصب القائد الأعلى”، على حد تعبير (لي) أو هي محض وصية على عرش كيم جو آي.
تكتب فيفيلد أن قارئ كتاب (الأخت) لن يعرف منه شيئاً يذكر عن كيم يو يونغ أكثر مما تتكرم به وسائل الإعلام الحكومية في بلدها “فلا نعرف شيئاً عما درسته في الجامعة أو في المدرسة الابتدائية في سويسرا. لا نعرف عمرها، أو هوية زوجها، وهل لديها أبناء. لا نعرف شيئاً عن دوافعها”، وهذه هي التفاصيل التي تهتم بمعرفتها أجهزة الاستخبارات ـ والعهدة على فيفيلد ـ لتساعدها في تقدير ما يمكن أن يكون عليه رد فعل شخص معين في أوقات التوترات الجيوسياسية أو مدى تحمله للمخاطر. و”هذه الأفكار بالغة الأهمية عندما يكون شخصان من جيل الألفية هما من يديران دولة نووية. فالأخوان كيم لديهما قدرة هائلة على زعزعة استقرار النظام الإقليمي”.
يستعيض (الأخت) عن تقديم الجديد عن كيم يو يونغ باحتوائه “سجلاً شاملاً لكل ظهور علني لها منذ انطلاق مسيرتها العلنية في 2014 بوصفها الذراع اليمنى لأخيها”، بما يجعل الكتاب في جانب منه ملفاً جديراً بالدرس، إذ أدرك لي قيمة “جمع المادة الإعلامية المتاحة لرسم أكمل صورة ممكنة” للأخت، وهذه الصورة لا تقول غير رسالة واحدة: إياكم والتقليل من شأن كيم، لكن لا أعتقد أنه قد يخطر لأحد التقليل من شأن امرأة يصورها الكتاب بوصفها “شريرة كرتونية” تقتسم مع أخيها مسؤولية الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية في بلدهما فقد “تأمر بإعدام” أي شخص إثر نزوة عابرة، “سواء كان ذلك في ميدان أم في غرفة مغلقة”، وهي “المرأة الشيطانية”، بحسب عنوان أحد الفصول، وهي أول امرأة في التاريخ تقدر إصبعها أن تمس زراً نووياً.
يكتب ديفيد تيزارد (موقع إن يه نيوز ـ أخبار كوريا الشمالية – 13 يونيو) المحاضر في جامعة كوريا الجنوبية للسيدات والمتخصص في الدراسات الكورية أن كتاب (الأخت) “قراءة يسيرة مقنعة جديرة بالوجود في أي متجر للكتب أو منفذ لها في مطار”، لكنه لمن يعرفون كوريا الشمالية “لا يقدم جديداً عن كيم يو يونغ”، وهو ما لا ينطبق على كثير منا.
ويأخذ تيزارد على (لي) جمعه في كتابه بين موقفين متناقضين من الأخت هما “الافتتان والازدراء”. ومن تناقضاته أيضاً أنه “يهزأ من تركيز الصحافيين والمعلقين على طريقة الأخت في التجمل والتزين ومسايرة الصراعات، لكنه لا يبخل بصفحات يخصصها لتظليلها عينيها باللون الخوخي وارتدائها سروالاً ضيقاً باللون نفسه، فضلاً عن وصفه مشية عارضات الأزياء التي تمشي بها”.
يعرض تيزارد للجوانب الكثيرة التي يستعرضها الكتاب في تاريخ كوريا الشمالية منذ التقسيم، مروراً بعلاقاتها بالإدارات الأميركية المتعاقبة منذ بيل كلينتون، لكنه لا ينسى أن يذكرنا طيلة الوقت بأن هذا كله خروج عن موضوع الكتاب الرئيس، وأن كل ذلك لا يخدم تصوير الشخصية التي تحتل غلافه وعنوانه، غير أنه يتمسك بأن الكتاب على رغم مثالبه “إضافة جيدة لأي مكتبة، وبخاصة لمن يبدأون استكشاف كوريا الشمالية”، ثم لا يمنعه هذا من التعبير عن خشيته من أن يكون غلاف الكتاب وعنوانه وتركيزه المزعوم على كيم يو يونغ “مسألة تتعلق بالتسويق أكثر مما تتعلق بالمحتوى الحقيقي”.
ويضيف، وهو المتخصص في الدراسات الكورية “كما أنني لست متأكداً أن هذه المرأة، على رغم ما لها من مكانة في كوريا الشمالية ومهما يكن ما قد تكون عليه طبيعتها الحقيقية في الحياة الحقيقية، قد فعلت حتى اليوم ما يجعلها جديرة بكتاب من أكثر من 200 صفحة”.
رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
الموقع :www.independentarabia.com