<p class="rteright">من أجواء الحرب اللبنانية (سوشيل ميديا)</p>
تؤدي الأم مي صالح دوراً مركزياًّ في رواية “يوم الشمس” (دار نوفل)، وهي السادسة للروائية اللبنانية هالة كوثراني، فهي حاضرة رغم الغياب، تتمحور حول غيابها الحاضر حياة ابنتها رؤيا، بطلة الرواية وراويتها، وتتركز حولها صفحات الرواية من أولها إلى آخرها، فغيابها له قوّة الحضور. وهو ما يتمظهر في وقائع عديدة، تشغل البطلة في مختلف مراحل حياتها، وتشكّل مبرّر وجودها الروائي، فتروح تروي حكايتها في نوع من الاعتراف الذاتي، تحلّ فيه ألغاز الأم، من جهة، وتحلّل شخصيتها هي، من جهة ثانية، حتى إذا ما شارفت الرواية نهايتها تكون الراوية قد فكّكت سائر الألغاز، وشفيت من مرض الأمومة.
في “يوم الشمس”، نقع على مجموعة جدليات، زمنية ومكانية وشخصية، تتفاعل في ما بينها لتشكّل النسيج الروائي. غير أن الجدلية المحورية فيها التي تتمحور حولها الجدليات الأخرى هي جدلية الغياب والحضور، أو جدلية مي / رؤيا، أو جدلية الموت / الحياة، وهي الناظمة لأحداث الرواية. وأياًّ تكن التسمية، فإن الطرف الأول في هذه الجدلية هو الأم باضطرارها إلى التخلّي عن ابنتها، وانفصالها عن زوجها، وعكوفها على فنّها التشكيلي، وارتباطها بآخر، وسفرها إلى اليابان، وعودتها إلى بيروت، ورسمها لوحة ابنتها، ومقتلها غداة الانتهاء منها، وسواها من الوقائع. والطرف الثاني هو الابنة بافتقادها حنان الأم، ومعاناتها فتور الأب وقسوة العمّة، واكتشاف ما أُخفي عنها، ومحاولة حل الألغاز المحيطة بمصير الأم، واقتفاء أثر الأم في هوسها الفني، والاستعانة بصديقات الطفولة، والانخراط في علاقة عابرة، والعثور على قاتل أمها ومحاولة الانتقام منه… ثم السفر إلى اليابان في نهاية الرواية، على خطى أمها، لتكون بعيدة من نفسها، قريبة من أمها. وبذلك، تكون الابنة صدى الأم، ونسخة منقّحة عنها، وانعكاساً لغيابها الأقوى من الحضور. و”يوم الشمس” هي نتاج العلاقة الداخلية بين طرفي هذه الجدلية المحورية، والعلاقة الخارجية بينها وبين الجدليات الأخرى، والعلاقات الداخلية بين طرفي كل من الجدليات الفرعية المكمّلة. على أن الطرف الثابت في هذه الجدليات جميعها هو رؤيا الابنة، بطلة الرواية وراويتها. ولعل إضاءة هذا الطرف الثابت والأطراف الأخرى المتحركة المتعالقة معه من شأنها أن تميط اللثام عن وجه الرواية.
تمظهرات الزمن
تتموضع رؤيا بين ماضٍ أليم يطاردها، وحاضر قاسٍ يحاصرها، ومستقبل غامض يتربّص بها. ولكل من هذه الأزمنة أدواته وآليات اشتغاله؛ يتمظهر الماضي في تخلّي أمها عنها مكرهة ولمّا تبلغ الثانية من العمر، وفي لقائها اليتيم بها وهي في الرابعة عشرة، وفي مقتل الأم في ظروف غامضة غداة الانتهاء من رسم لوحة الابنة. ويتمظهر الحاضر في عمّة قاسية، وأب فاتر، وبيت بارد، ومجتمع ذكوري، وحرب توشك على وضع أوزارها. ويتمظهر المستقبل في قلق يعتريها منه، وتطلّع إلى جلاء الغموض الذي يحيط بمصير الأم. وهي، في مواجهة المطاردة والحصار والتربّص، تلجأ إلى آليات دفاع، تمكّنها من المحافظة على توازنها، وتمدها بالقدرة على الاستمرار. ويشكّل الفن والصداقة والجنس بعض هذه الآليات.
في مواجهة الماضي، تعكف رؤيا على الرسم التشكيلي والحروفي، على خطى أمّها، فيمنحها الفن الشعور بالأمان والحرية، وتستعيد بالألوان والحروف الأم المفقودة، وتقبض على حريّتها المصادرة. وفي هذا السياق، تكثر كوثراني من الصفحات التي تبيّن الوظائف التي ينهض بها الفن في حياة الإنسان، من خلال رؤيا، بما هو تحقيق للذات وتوسيع للهامش واستعادة للمفقود ومنح للحرية وتأمين التوازن النفسي. ولعل هذا الإكثار هو ما يوقعها في مطب التكرار للأفكار نفسها في غير مكان من الرواية.
في مواجهة الحاضر، تلجأ رؤيا إلى صديقتَيِ الطفولة عليا وزينب، كلّما حاصرها الحاضر بوقائعه القاسية، فتستعيد مع كل منهما ذكريات الدراسة والطفولة، وتتبادل مع كل منهما الأسرار الصغيرة، وتتجاذب معهما الأحاديث، في المقهى أو على الرصيف أو في الشقة، من جهة. وتلجأ إلى اللذة المؤقتة، من خلال علاقة عابرة مع رامي ابن أحد زعماء الحرب، من جهة ثانية. وهنا تسقط البطلة في الازدواجية بين رفضها الممارسات الميليشياوية المتمخّضة عن الحرب وقبولها بعلاقة جسدية مع ابن أحد رموزها مبرّرة ذلك بالحصول على حقها من اللذة.
في مواجهة المستقبل، تستمر رؤيا في تفكيك لغز مقتل الأم واختفاء اللوحة مستفيدة من الخيوط التي وفّرها لها مالك شقيق زينب، الذي أحبها بقوة وحالت الفجوة الطبقية بينهما دون التجرّؤ على الاعتراف بهذا الحب، فاتخذ من الصعود الميليشياوي في زمن الحرب وسيلة ليردم هذه الفجوة ويصبح جديرًا بها، غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي سفينته. ومع هذا، لا ينقطع عن حبها، ويعثر على اللوحة المفقودة ويعيدها لها، ويكشف لغز مقتل الأم، ويقدّم لها الحل على طبق من اعتراف، بعد رحيله، حتى إذا ما عثرت رؤيا على إجابات عن أسئلتها بالتقسيط، تتحرّر من ألم الماضي وقسوة الحاضر، وتيمّم شطر المستقبل بثقة. وبذلك، تقدّم لنا هالة كوثراني شخصية روائية إيجابية، استطاعت أن تحقق أهدافها، وتنتصر على آلامها، وتجترح مستقبلاً جديداً، رغم الظروف القاسية.
“قتل” الأب
على العكس من الحضور الساطع لشخصية الأم في حياة ابنتها رغم الغياب، فإن غياب الأب كان هو الطاغي رغم حضوره الجسدي؛ فالأستاذ هاني المحامي اللامع متحفّظٌ في التعبير عن عاطفة الأبوّة، بارد المشاعر، لم يعانق ابنته يوماً ونادراً ما يحدّثها، يتواطأ مع العمة على إخفاء الحقيقة عن ابنته، ويتسبّب في مقتل زوجته عن غير قصد، ويحاول التكفير عن خطئه غير المقصود بزيارات يختلسها إلى قبرها. لذلك، تقوم ابنته رؤيا بـ”قتله”، بالمعنى الفرويدي للكلمة (عقدة أوريست)، فتتجنب التواصل معه، وترفضه في قرارة نفسها، وتتمرّد عليه، حتى إذا ما أقعده المرض في سنواته الأخيرة، تتجاذبها مشاعر متناقضة نحوه، تتراوح بين حدّي عدم التعاطف معه والإشفاق عليه. ثمّ يتغلب الحد الثاني على الأول في نهاية الرواية حين يصبح ضعيفاً كطفل، فتسامحه وتحبّه. وبذلك، تحضر الأم بقوة في الرواية رغم غيابها الجسدي، ويغيب الأب بقوة رغم حضوره الجسدي. وتقوم هالة كوثراني من خلال بطلتها بـ”إحياء” الأم و”قتل” الأب.
أطراف أخرون
إلى جانب رؤيا، الطرف الثابت في الجدلية الرئيسية والجدليات الفرعية، ثمة أطراف أخرى متحرّكة، تختلف من جدلية إلى أخرى، ولكل منها مساره في النص ومصيره. فالعمّة التي فاتها قطار الزواج وتغار من جمال زوجة أخيها وترى إلى ابنتها نسخة عنها تعبّر عن هذه الغيرة بالقسوة على الابنة والتشدّد في المحافظة على أدبيات الطبقة التي تنتمي إليها. وزينب ابنة الناطور وصديقة الطفولة التي تقع عليها طبقية العمة وتعي الفجوة الطبقية التي تفصلها عن رؤيا وأسرتها، فتقوم بردمها بالتفوق في الدراسة والتمسك بالمبادئ، لا تعاني أي عقدة نقص إزاء رؤيا، وتنخرط معها في علاقة صداقة من الند إلى الند، تفيد منها كلتاهما في المفاصل الصعبة. وعليا زميلة الدراسة التي لها فلسفتها الخاصة وتختار السعادة على التعاسة طالما أن الأخيرة لا تستطيع تغيير شيء في الحياة، تعود إلى التواصل مع رؤيا بعد انفصال قسري، وتقف إلى جانبها في محنتها.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومالك، شقيق زينب، يحب رؤيا بقوة ولا يجرؤ على البوح بحبه لها لأنه يدرك حجم الفجوة الطبقية بينهما، يتخذ من العمل الميليشياوي في الحرب سبيلاً للترقي الاجتماعي وينجح في ذلك، غير أن هذا النجاح لا يوصله إلى حبيبته. لذلك، يلجأ إلى التعويض عن فشله في الارتباط بها، مستفيداً من موقعه الميليشياوي، بالحصول على اللوحة المفقودة، وشراء بيت جدها في صيدا، وحلّ لغز مقتل الأم الذي يتسبّب فيه بدوره عن غير قصد، حتى إذا ما دنت نهايته بعد إصابته بمرض السرطان، يعهد إلى صديقه نديم هاشم الذي قتل الأم عن طريق الخطأ بإعادة اللوحة المفقودة وجلاء لغز مقتل الأم، فيصالح رؤيا مع ماضيها، ما يجعلها تتطلّع إلى مستقبل جديد، بعيداً عن ذكريات الماضي ووقائع الحاضر. ورامي ابن زعيم الحرب يستغل موقع أبيه وملاءته المالية وسلطته الميليشياوية، ويعيش على رأسه، وينخرط في مواقعة اللذات، ويكون له ضحاياه، ينخرط مع رؤيا في علاقة جنسية عابرة، تنتهي بسفرها إلى اليابان في نهاية الرواية.
“يوم الشمس” خطوة متقدّمة في مسيرة هالة كوثراني الروائية، تكرّس خطوات سابقة، وتشي بأخرى لاحقة، ولا يمكن مقتفي هذه الخطوة إلاّ أن يعود منها بكثير من “الإمتاع والمؤانسة”، على حد عنوان أبي حيّان التوحيدي.
رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
الموقع :www.independentarabia.com
صدر عن منطقة مرجعيون - حاصبيا في "القوّات اللبنانيّة"، بيان، لفت الى انه "أمام الاستحقاق…
عقد "تجمع أصحاب الحملات للحج والعمرة الفلسطينية في لبنان" مؤتمرا صحافيا، ظهر اليوم في دار…
نظمت كلية الفنون والعمارة - الفرع الثالث معرضا للمنتدى البصري الثاني للفنون والعمارة للفنان مصطفى…
صدر عن المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي ـ شعبة العلاقات العامّة البلاغ التّالي: "في إطار…
اعتبرت منظمة "أطباء بلا حدود" في بيان، ان "السماح بإدخال كمية غير كافية من المساعدات…