وزير الداخلية يعترف لـ”المدن”:شغب طرابلس “فشة خلق” لا مؤامرة

وزير الداخلية يعترف لـ”المدن”:شغب طرابلس “فشة خلق” لا مؤامرة
نادر فوز
عقب يوميّ الاحتجاجات الأخيرة في مدينة طرابلس، خرج خطاب الأبلسة سريعاً من جيوب سياسيين وإعلاميين. المطلوب من هذه المدينة المحطّمة أساسياً أن تبقى على حالها: صندوق بريد. يطلّ منها “بعبع قندهار” كل حين، وفي كل زمن ومحطة. نعتُ طرابلس بقندهار ذمّ لها ولأهلها. لا يريد الشتّامون سوى رؤية مدينة أفقية مسوّاة بالأرض، معقلاً للتكفير والإرهاب. يخرج منها ناسها على جِمال أو عربات خيل، يمشون على الرمال، يأكلهم الغبار من كل صوب. أغلب هؤلاء الشتّامين، عالقون سياسياً بين نفقي نهر الكلب جنوباً وشكا شمالاً. على الأغلب لم يزوروا طرابلس، لم يقصدوها ولم يجولوا فيها ولم يلتقوا أهلها. لا قبل 17 تشرين ولا بعدها. لا قبل جولات الاقتتال الداخلي ولا بعدها. لا قبل معركة التوحيد ولا بعدها. لا قبل الحكم السوري لها ولا بعده.
احتجاجات غير منظّمة
في اتصال مع “المدن”، يؤكد وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي على أنّ “الاحتجاجات الأخيرة التي حصلت في طرابلس أعمال غير منظّمة”. من لسان فهمي تخرج هذه العبارة، ليردّ ركن من أركان السلطة على كل الحملات المنظمة التي ساقها أركان أساسيون في المنظومة ضد طرابلس. “يريدون الفوضى”، “لا يريدون الدولة”، “يهاجمون الجيش”، قالت الحملة المحبوكة ضد المدينة وأهلها. ولإحلال الفوضى لا بد من أعمال منظّمة. لكن هذا لا ينطبق على طرابلس باعتراف وزير الداخلية.
فشّة خلق
وباعتراف وزير الداخلية أيضاً، ما حصل في طرابلس “فشة خلق، رد فعل على المنظومة الاقتصادية والنقدية والمالية المنهارة”. وفي هذه العبارة سقوط آخر للمؤامرة ضد طرابلس. رد فعل على ماذا؟ على فعل التجويع والانهيار والفشل في إدارة الأزمات. على فعل قطع الكهرباء، والدواء، والمحروقات والأوكسيجين. على فعل إعدام الحقوق والأمل والطموحات. على فعل القمع الوحشي، بعد مصادرة أمن المدينة من قبل ميليشيات مدعومة من أركان السلطة، وبعد تفجير مجتمعها. على فعل حرمانها من أدنى مقوّمات العيش منذ خمسين عاماً تقريباً.
أوكسيجين ونوم البلاط
انطلقت شرارة الاحتجاجات الأخيرة بعد رسالة أب انقطع الأوكسيجين عن جهاز ابنته المصابة بالربو نتيجة انقطاع الكهرباء. وانطلقت الاحتجاجات أيضاً لأنّ ثمة عائلات بأسرها لا تجد ما تأكله. لأنّ صور أطفال طرابلسيين احتلّت وسائل التواصل الاجتماعي وهم يفترشون بلاط الأرض ليتّقوا الحرارة والرطوبة. أطفال طرابلس، كما سائر أطفال مختلف المناطق اللبنانية المحرومة. وفقراء طرابلس، كما سائر فقراء المناطق الأخرى. إلا أنّ شعورهم بالموت والعجز والفشل أكبر، لا لشيء سوى لأنهم متروكون وحدهم بلا قيادات سياسية ولا طوائف تحميهم كما تفعل الطوائف الأخرى.
المدينة الطبيعية الوحيدة
لماذا تشتدّ الاحتجاجات في طرابلس؟ لأنها المدينة الطبيعية الوحيدة في لبنان. ليست مجرّد أحياء مقسّمة بين فئات اجتماعية، وشوراع سكنية وأخرى تجارية. لأنها حافظت على ما فقدته بيروت بعد إعمارها. فظلّ التداخل قائماً بين طبقاتها وحركاتها. لأنّه لم يقم فيها وسط مدينة همّش كل ما حوله وأبعد الفقراء إلى خارج سوره وقضى على طبيعتهم الاجتماعية والاقتصادية. فظلّت طرابلس مدينة واحدة بنسيجها واختلافاتها وتنوّعها. لأنها المدينة الفعلية الوحيدة في البلد. مدينة بلا ضواحٍ، حوّلتها السلطة السياسية إلى ضاحية كبرى مهمّشة وفقيرة.
طرابلس المتطرّفة
تشويه سمعة طرابلس، ينبع من أمرين. الأول، حقد طائفي ومذهبي ضد مدينة بعيدة كل البعد عنه بفعل تنوّعها الطائفي. الثاني، محاولة لكسر صورة المدينة الفعلية الوحيدة، بهدف مشروع “إعادة إعمار” مطلوب وسيطرة اقتصادية مرجوّة، لوضع اليد عليها وتخريب نموذجها المستمرّ. طرابلس، بقدر ما هي معتدلة بتعايشها الطائفي والاجتماعي والاقتصادي، إلا أنها متطرّفة. وليس التطرّف مربوطاً بالإرهاب هنا. هي متطرّفة، إذ يمكن أن تكون عنوان أقسى المعارك والحروب الأهلية التي خيضت في لبنان. وفي المقابل يمكن أن تكون عنوان أبهى حلل التعايش والانتفاضة والثورة بوجه الظلم والمنظومة الحاكمة. تطرّفها نابع من قسوة العيش فيها، ومن قسوة ظروفها وقسوة ممثليها ورجال الأعمال فيها.
في أي من أحياء طرابلس، يمكن أن ينزل خمسة أشخاص لقطع الطريق أمام منازلهم. طرابلس ليست إرهابية، ولا هي قندهار. طرابلس، مدينة لبنانية.
تمّ قبل أشهر إحراق مركزها البلدي.. هل من يذكر؟ كان ذلك عملاً منظمّاً باعتراف السلطات السياسية والأمنية. ولأنه منظّم، لم يتمّ إلى اليوم الكشف على الجناة. لم يتمّ إلى اليوم قول الحقيقة في هذا الموضوع. لم يتمّ إلى اليوم، قول إنّ تنظيمَ إحراق بلدية طرابلس هدفه إخماد احتجاجات أهل المدينة، ووضعهم في مصاف الخارجين عن القانون، بهدف شيطنتهم وأبلسة مدينتهم.
المدن