محمد شيا في مجلس عاشورائي برعاية الخطيب: فشل التجربة اللبنانية وانهيارها مسؤولية المرجعيات الدينية أولا
وطنية – أحيا المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى اليوم السابع من عاشوراء في مقر المجلس، برعاية نائب رئيس المجلس الشيخ علي الخطيب وحضوره الى شخصيات سياسية ونيابية واجتماعية وعلماء دين ومواطنين. وتلا المقرىء أنور مهدي آيات من الذكر الحكيم، وقدم الاحتفال غازي قانصو.
وألقى الدكتور محمد شيا كلمة قال فيها: "السلام عليكم وعظم الله أجوركم، وأهدانا إلى السبيل القويم وسط متاهات هذه الدنيا في زمن الذي لا يختلف كثيرا عن زمن الإمام الحسين، فالباطل ما زال يزين لأصحابه باعتباره حقا، وأصحابه لم يقلوا عددا أو عدة، إن لم نقل زادوا عددا وعدة وقدرات وموارد، بينما المستمسك بالحق لا يزال، كما كان أبدا، كالقابض على الجمر".
أضاف: "كان الإمام الحسين عليه السلام، وهو يتخذ قرار مواجهة الباطل يدرك ذلك، وأكثر، كان يدرك أيضا أنها معركة غير متكافئة، وأنه لا محالة ذاهب مع أهل بيته إلى موت محتم. لكن ذلك كله، ومعه كل استعراضات التهديد والوعيد، لم تثنه عن قراره التاريخي بالمواجهة، مواجهة الباطل أيا تكن الأثمان الشخصية، فكان رده الهادئ الصارخ في آن: "والله لا أعطينكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار الذليل. ولم يكن ذلك من قبيل التصرف الذي لا عود عنه، بل كان في وسعه في كل ثانية العود عن قرار المواجهة، وكان له إذاك- لو كان إنسانا عاديا – مئة عذر وسبب، ليس أقلها كيف يواجه أمرؤ أيا تكن قدراته بسبعين رجلا، وفي رقعة قاتلة من الصحراء، جيشا يضمم ألافا مؤلفة؟"
وتابع: "كان الحسين في ظني يعرف ذلك كله وأكثر. ومع ذلك لم يخط إلى الوراء ولم يتراجع. أما السبب فبسيط وعظيم في آن معا: كان الحسين يدرك في اللحظة تلك أنه لا يواجه أو يحارب عن شخصه وآل بيته فقط، بل كان يعلم علم اليقين أنه إنما يواجه في اللحظة تلك الباطل والظلم، باسم الحق والعدالة أولا، وباسم الإنسانية جمعاء ثانيا! لذلك جاء استشهاده المحتوم حدثا لا يخص جماعة أو أمة أو مكانا بعينه. بل كان حدثا هائلا يخص البشرية جمعاء، في كل الأمكنة وكل الأزمنة. فما بعد استشهاد الحسين في تاريخ الأخلاق والدين والقيم، ليس كما قبله. لذلك قيل فيه وبحق، وآمل أن لا يكون في ذلك بعض مغالاة: الحسين لا يقاس بالثوار، بل بالأنبياء".
وقال: "لاستشهاد الإمام الحسين في هاجرة ذلك النهار، العاشر من محرم، معاني أخرى، كثيرة بالغة الجلال والدلالة، والمنقطعة النظير، على الأرجح. من المعاني الاستثنائية تلك والتي كانت حاسمة، بكل ما للكلمة من معنى، على ما رأه بعض المؤرخين البارزين، من غير العرب والمسلمين، قولهم أن الإمام الحسين باستشهاده قد أنقذ الدين! لا الدين الإسلامي فحسب، بل فكرة الدين في الأصل، في تعريفه، وجوهره، ولأجيال لاحقة! هكذا قالوا حرفيا. وتفسير ذلك، أن الحسين باستشهاده المدوي إنما أثبت للبشر جمعاء، وللتاريخ أيضا، أن الدين لا يكون في صف الظلم والظالمين. وأن الدين يكون دينا – لا بالفروض والشعائر والمناسبات وحسب، وإنما كذلك، وربما قبل ذلك: بعدم قبول الظلم ولا المساومة مع الظالم.
أضاف: "نعم، بهذا المعنى أنقذ الحسين عليه السلام باستشهاده فكرة الدين، وموقع الدين، ومستقبل الدين: فقد بين بدمه الزكي، أن الدين ليس لله فقط – كما نكرر دوما – وإنما هو قبل ذلك للانسان، بل للانسانية جمعاء؛ للانسان في طلبه للعدل، ورفضه للظلم والظالمين، أينما كانوا وأنى وجدوا؛ وأنه سند أبدي للحق وحرب على الباط، مهما بلغت الأثمان، وهو لا يكون إلا مع الحق، في كل زمان ومكان، معنا أو علينا، وإلا كنا جاهليين على ما أشار الله تعالى في كتابه في غير مكان. فالحق، حق، قبل به السلطان أم لم يقبل، كثر سالكوا دربه أم قلوا، وهل أبلغ في ذلك من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: لا تستوحشن طريق الحق ولا قل سالكوه! (من شكيب أرسلان في تعليقه على "نهج البلاغة") وهكذا فالإمام الحسين، في العاشر من محرم، لم يكن ضحية للتاريخ فحسب، ولا شاهدا على التاريخ: لقد كان في الحقيقة يصنع التاريخ. نحن شهود على التاريخ لا هو: هو وبالمعنى الشامل: صانع للتاريخ. وعليه، ليس كثيرا أن يقال، وبحق، "لقد انتصر الدم على السيف". صحيح، مئة في المئة، فالذي ظن أنه انتصر إنما كان مهزوما في الحقيقة والواقع؛ ولم يتأخر التاريخ أن قال كلمته في الموضوع، بعد بضع عشرات من السنين لا أكثر. الحسين لم يهزم في عاشوراء؛ قاتلوه ظلما هم الذين هزموا؛ لم يستطعوا أن يأخذوا منه غير جسده، لا مكانته ولا الحق الذي بين يديه؛ أما استشهاده الداوي وأهل بيته ذلك النهار فغدا مدرسة لم تنفك إلى الآن عظيمة المعنى. وقوام تلك المدرسة هي ببساطة: أن ليس في مقدور القوة الغاشمة، ولا في وسع الاستبداد، مهما بلغا وسادا، أن يجعلا الباطل حقا، أو الظلم عدالة وقانونا، تقدم الزمن أم تقادم".
وتابع: "هوذا المعنى الحقيقي المستمر لاستشهاد الحسين، ولشجاعته، وإصراره على خوض المواجهة (ولا أقول المعركة) مع المستبد حتى النهاية، من دون مساومة، وهو عارف مسبقا بخاتمتها المأساوية. كان ذلك إعلانا عاليا صارخا في برية البشر، وبالدم الزكي المسفوح بريئا: وبهذا المعنى السامي، كان الإمام في اللحظة تلك يصنع التاريخ. وبهذا المعنى، أيضا، استطيع أن أفهم القول تماما القول، كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء، لا عن عاطفة ولا من انفعال.؛ بل من تقدير صحيح ومسؤول لواجب الإنسان الأخلاقي على الدوام. عاشوراء الآن ليست هذا اليوم المحدد، دون سواه، بل هو كل الأيام، ويجب أن تكون كذلك. وكربلاء ليست هذا المكان المحدد من الأرض، بل هو كل البشر، وبخاصة البشر الصادقون المظلومون الصابرون، والرافضون في آن معا للباطل وأصحابه، للظلم وأهله، والمحبون للحق وأصحابه وللعدل وأهله. وما استمر المؤمنون الصادقون المخلصون في إيمانهم ذاك فلن يستقر للظلم دولة، ولا للباطل جولة. ولطالما قدم قادة عظام أنقياء عبر التاريخ، القديم والحديث، وفي ما بدا استنساخا للتجربة الحسينية، أرواحهم ثمنا للالتزام بالحقيقة والحق، ودفع الظلم عن الناس، ومقاومة الظالمين والسجانين. كان في وسع هؤلاء لو قبلوا التنازل عن المبادئ الأخلاقية تلك أن يغنموا السلطة وما ضمت في أهون السبل. لكنهم اختاروا، كما الإمام علي عليه السلام، من قبل، وكما الإمام الحسين في استشهاده الداوي، المبادئ لا السلطة، فغدوا لشعوبهم بل للبشرية جمعاء السراج المضيئة حين يدلهم الليل وتشتد العتمة. وواحد فقط من هؤلاء هو المهاتما غاندي الذي قال تعلمت من استشهاد الحسين معاني التضحية والإصرار على الحق والعدالة. هناك بعض المعاني، بعضها فقط، التي ترد إلى الذهن عشية العاشر من محرم ذكرى استشهاد الإمام الحسين. ليست رغبتي من ملاحظاتي أعلاه أن أزيد على ما تعرفون أو تعانون قيد أنملة؛ بل أن أقوم بجزء مما يفرضه الواجب الأخلاقي على كل مثقف في أن يقف في صف الحق والعدل وأن يشجب من دون مواربة الظلم ولا ينحاز للباطل".
وقال شيا: "يشرفني في هذه المناسبة أن أنقل الى مجلس العزاء هذا مشاركة سماحة شيخ العقل الدكتور سامي أبي المنى القيم نفسها والمعاني السامية نفسها. وما ذلك غير رمز للعلاقة القديمة الوثيقة بين مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى مذ تأسس؛ كما بينهما وسائر العائلات الروحية اللبنانية الكريمة، الاسلامية والمسيحية، والتي تؤلف نسيج مجتمعنا الواحد المتعدد في آن. لقد كان الحفاظ على لبنان هذا، المتعدد والواحد، في آن، قضية مشتركة للمجلس وللمشيخة منذ البدء، وبخاصة لسماحة الإمام المغيب موسى الصدر كما للمرحوم الشيخ محمد أبو شقرا، وبعدهما إلى يومنا هذا. هي ليست قضية وهما فقط، بل مسؤولية كذلك، لا للمجلس والمشيخة فقط، وإنما لكل المرجعيات اللبنانية الروحية، الإسلامية والمسيحية. بل في وسعي القول أن الأمر هو أبعد من ذلك؛ فمسؤولية المرجعيات الروحية والدينية تلك شديدة، صعبة، عالية الأهمية، تساوي مسؤولية المرجعيات السياسية اللبنانية (مع الاحترام لها) وربما تزيد. من وجوه المسؤولية والصعوبة تلك، أن في وسع بعض خطاب المرجعيات السياسية أن يتضمن غلوا أو تطرفا من هذه الزاوية أو تلك، ولهذا السبب أو ذاك؛ لكن ليس في وسع خطاب المرجعيات الروحية أن يتضمن شيئا من ذلك، لا الغلو ولا التطرف، لما في الأمر من تداعيات متفجرة. وفي وسع بعض خطاب المرجعيات السياسية أن يخطىء، بسهولة، هنا أو هناك؛ وكما السياسة على الدوام؛ ولكن ليس في وسع خطاب المرجعيات الروحية أن يخطىء لا هنا ولا هناك. لهذه الأسباب، ولسواها، شاء القدر، وتوجب الأمر، أن تكون مسؤوليات المرجعيات الدينية اللبنانية في هذه المفترق من الزمن اللبناني الحديث مسؤولية مضاعفة، ويتوقف على مواقفها وتوجيهاتها الكثير من النتائج، كما حدث غير مرة في الماضي، وكما يمكن أن يحدث في القادم التطورات".
أضاف: "في هذه اللحظة بالذات، يبدو في صلب مسؤوليات المرجعيات الدينية والروحية أن تقف مع فقراء الوطن، دونما التفات إلى هوية دينية أو مناطقية؛ وأن تكون ضد الفاسدين والناهبين والمتاجرين بقوت الفقراء، ودونما التفاتة إلى هوية أو انتماء. فكما المظلومون أمة واحدة، كذلك الفقراء أمة واحدة؛ ولا حاجة لتكرار ما هو مكرور أن لا دين لفاسد، ولا انتماء لناهب أو متاجر بقوت الفقراء وحياة أولادهم. وفي صلب المسؤوليات الوطنية، كذلك، أن نكون جميعا مع الوطن ضد أعدائه، وبخاصة ضد العدو الصهيوني الذي لا يحتاج أي بيان بعدوانه وأطماعه في أرضنا ومياهنا وثرواتنا إلى دليل؛ وهل من دليل أوضح لهويته العدوانية مما مارسه ويمارسه يوميا من ظلم ما بعده ظلم على شعبنا الفلسطيني، والذي تعرض ويتعرض لصنوف من العدوان والعسف لم يعرفها شعب أخر في التاريخ".
وتابع: "في صلب مسؤولياتنا الوطنية، بل الدينية، أن لا نضحي بأخوة لبناني آخر، لا المتوافق معنا بالرأي، بل قبل ذلك المختلف معنا في الرأي والتحليل، وأن نوجه شعبنا وأبناءنا ومريدينا إلى حقيقة أن الاختلاف في الرأي يجب ألا يفسد في الوطن هوية، ولا في الود قضية، ولا في الدين أخوة؛ فالمؤمنون أخوة في كل مكان وزمان. فليتسع صدرنا لكل رأي متطرف، منفر، ولو كنا نعلم علم اليقين أنه يخالف المنطق وحقائق التاريخ؛ ولنجادل صاحب الرأي هذا، وكل صاحب رأي، بالحسنى والكلمة الطيبة، إذ لا شيء يسفه تطرف المتطرف إلا الاعتدال؛ ولا شيء يسخف المنفر أكثر من الاحتضان؛ بل لا شيء يظهر جليا جنون المتسرع غير المتروي وقبح ما يفعله، إلا ما نقابله به من حكمة وترو وعقلانية. لقد كان أحد دروس استشهاد الإمام الحسين التضحية بالنفس والأنفس؛ أفلا نضحي نحن ببعض انفعالنا، ولو مبررا، لصالح تمتين وحدة التجربة اللبنانية الروحية والوطنية الشديدة الحساسية والتي يجب أن لا تفشل أو تتفكك أو تنهار؟ إذا سمح للتجربة اللبنانية أن تفشل وتنهار، لا سمح الله، فستكون تلك خطيئة كبرى، وخطأ لا يغتفر للمرجعيات اللبنانية السياسية؛ ولكنها ستكون وبالدرجة الأولى مسؤولية المرجعيات الدينية والروحية اللبنانية، إن لم تتمكن رغم ما تملكه من رصيد عال لدى الناس من أن تحتوي بحكمتها الخلافات الناشئة، وأن تخفف من حدة الخطاب السياسي، وأن تقدم للشعب اللبناني في أطيافه كافة دروسا يومية في التلاقي والتسامح والتفهم المتبادل والإيمان المشترك؛ وفي وسع الممارسة الدينية الأيمانية الرائعة هذه أن تعيد ممن ذهب بعيدا إلى جادة الصواب، جادة الوحدة، في الإيمان والوطن".
وختم شيا: "سمحت لنفسي ببعض السياسة في مناسبة حزينة، لكنها ليست سياسة في الحقيقة بمقدار ما هي أفكار تستخلص من واقعة استشهاد الإمام الحسين، بعض من المعاني العظيمة التي ما انفك البشر يستخلصونها جيلا بعد جيل. هوذا بعض واجب مشاركة سماحة شيخ العقل، ومشاركتي، أحزانكم في إحياء هذه الذكرى العظيمة، وهذا الموقف المهيب".
في الختام، تلا الشيخ حسن بزي مجلس عزاء حسيني.
===== ن.ح.
رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
الموقع :www.nna-leb.gov.lb