كنت على رحلة سفينة "ويندراش" وقمت من أجل الحب بأكبر مقامرة في حياتي


<p>يقول غاردنر: "أمضينا أوقاتاً سعيدة" على متن سفينة "إمباير ويندراش" (من مصدر عائلي)</p>
ألفورد غاردنر كان مقامراً طيلة حياته. فقد خاطر هذا الرجل الذي يبلغ من العمر الآن 97 سنة، على حد سواء، في ألعاب الورق، أو في الحب – أو حتى في مستقبله.
كان على هذا النحو من هذا الشغف بالمغامرة عام 1948، عندما دفع 28 جنيهاً استرلينياً (113 دولاراً أميركياً في حينه)، وصعد على متن الباخرة الشهيرة HMT Empire Windrush المتوجهة إلى إنجلترا (ارتبط اسم السفينة في وقت لاحق بفضيحة “جيل ويندراش”، أو الأفراد الذين كانوا ضمن مجموعات المهاجرين الذين أتوا من دول أفريقية وكاريبية إلى بريطانيا على متن السفينة، وتعرضوا للاحتجاز والحرمان من حقوق أساسية، وتم ترحيلهم على رغم امتلاكهم الحق في المكوث بصورة شرعية في المملكة المتحدة).
انطلق الشاب البالغ من العمر آنذاك 22 سنة من كينغستون في جامايكا، في رحلة دامت ثلاثة أسابيع مع شقيقه غلادستون ومئات من المهاجرين الآخرين من دول الكاريبي المختلفة، لكن معظمهم كانوا من جامايكا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم أن بعض الركاب عانوا التوتر وأعراض دوار البحر قبل وصول السفينة إلى ميناء “تيلبوري دوكس” Tilbury Docks في مقاطعة إيسيكس في الـ22 من يونيو (حزيران)، لم يكن ذلك هو الوضع في ما يتعلق بألفورد.
فالرحلة بالنسبة إليه، جعلته يشعر كأنها عودة للوطن. فهو كان في نهاية المطاف سافر إلى بريطانيا للمرة الأولى عام 1944 مهندساً في “سلاح الجو الملكي البريطاني” RAF، واستقر لفترة قصيرة في مدينة ليدز، قبل أن يعود لكينغستون في بلاده عام 1947.
الرحلة الثانية لم تتطلب جهداً كبيراً منه. وفي الواقع، كان ألفورد يجد في عرض البحر راحة شديدة، إلى درجة أنه غالباً ما كان يتطوع للصعود إلى سطح السفينة، من أجل جمع وجبات الطعام والعودة بها لزملائه.
ويقول إن “الإبحار على متن السفينة كان ممتعاً! لقد اعتدتُ السفر عن طريق البحر كما فعلت من قبل. توقفنا في أماكن مختلفة، وانضم إلينا أشخاص كثيرون، وأمضينا أوقاتاً سعيدة. وكان الذهاب إلى إنجلترا بالنسبة لي كالعودة للوطن للمرة الثانية، فقد كان لدي بعض الأصدقاء الطيبين جداً هنا.”
رحلة هؤلاء الركاب إلى “البلد الأم” – سواء في المقصورات ذات الإضاءة الخافتة، أو في الطوابق العلوية الصاخبة عندما يسمح الطقس بذلك – كان يطغى عليها التوتر والإثارة، سواء لجهة اللعب بأحجار الدومينو، أو التبادل الحماسي للقصص، أو إنشاد أغاني لورد كيتشنر ذات طابع الكاليبسو (تقاليد موسيقية أفريقية كاريبية، ظهرت في ترينيداد وتوباغو في منتصف القرن الـ19)، ونعم، بعض القمار الجريء والمرح.
ويقول ألفورد ضاحكا: “كنت أقامر 99 مرة من أصل 100، وأخوض تحديات ألعاب الورق كالبوكر … على رغم أنني خسرت كثيراً. وفي كل مرة يحدث ذلك، كان شقيقي يتولى الأمر عني ويفوز”.
الجو طيلة الرحلة كان مفعماً بالبهجة بين الركاب الذين كانوا في معظمهم من الكاريبيين السود. وشكل ذلك تبايناً شعرياً مع ظروف كثيرين من أجدادهم في أجيال سابقة. فالظروف الراهنة شكلت تحدياً للسردية التاريخية وقلبت التوقعات. هذه المرة، إن بريطانيا هي التي ناشدت رعاياها المستعمَرين، أن يساعدوها في إعادة بناء البلاد، بعد الخراب الذي أحدثته “الحرب العالمية الثانية” – وقد هب الأبطال “غير المتوقعين” لتلبية النداء بشكل جدي.
في الأعوام الأخيرة، أصبحت “ويندراش” تعني أموراً مختلفة لأشخاص مختلفين، لكن بالنسبة إلى ألفورد، فإن الأمر يتلخص في شيء واحد: الحب.
ويوضح: “كانت لدي أسباب مختلفة للمجيء، لكن سبباً خاصاً أعادني: كنت واقعاً في حال من الحب الشديد. التقيت بزوجتي عام 1946، ووعدتها بأن أعود من أجلها”. ووفى ألفورد بوعده.
ويضيف أنه عندما نزل من السفينة لم يشعر بالانزعاج حتى من تلبد السماء بالغيوم والطقس العاصف، كما أن العودة ليوركشير جعلته يشعر بارتباط عاطفي وبدفء داخلي.
ويقول في وصف ذلك: “عندما وصلنا، كان الجو بارداً للغاية، لكن ذلك لم يشعرني بقلق، لأنني كنت أتطلع إلى العودة لليدز”. هذه المدينة أكمل فيها ألفورد دورة تدريبية، وكان يعرفها بشكل جيد.
أسس “نادي الكريكيت الكاريبي” Caribbean Cricket Club في ليدز، وهذا النادي يحتفل أيضاً بعيده الـ75 هذا العام. وقد لعب لفترة من الوقت، حارساً ميدانياً لمرمى التهديف (يعتمر قبعة ويتلقى الكرات).
في قاعة الرقص في مجمع “ليدز ميكا”، التقى عام 1947 بالشابة نورما التي أصبحت زوجته. كانت خياطة ملابس، وقد افتتن بقامتها وبحركاتها أثناء الرقص.
ويقول متذكراً وهو يرسم ابتسامة على وجهه: “آه، كم كانت شابة جميلة وراقصة يافعة رائعة”. تزوج الثنائي عام 1952 في مكتب لتسجيل عقود الزواج، وتوجها إلى منزلهما لإقامة حفل الزفاف. كان يبلغ من العمر حينها 25 سنة، أما هي فكانت في سن الـ21.
حاول ألفورد أن يطلب يد نورما من والدها، لكن الأخير قال له بلا مواربة، إنه لا يوافق على زواج ابنته من رجل أسود.
ويسترجع ألفورد تلك اللحظات قائلاً: “لم يكن والد نورما يريد أن يتعرف علي على الإطلاق. وبمجرد أن دخل غرفة المعيشة ورآني، صرخ بأعلى صوته، ’أخرجوه من هنا‘! فاستدرت على الفور وخرجت للتو. إلا أن المفاجأة أنها لحقت بي وقالت، ’إنني ذاهبة معك‘”.
ويضيف “أقمنا حفلة في منزلنا مع جميع أصدقائنا… استمتعنا بتناول المشروب والرقص معاً. لم يشأ والدها التعرف علي، لكن هناك جانباً واحداً عرف عنه، وهو أنه أحب أحفاده”.
بعد إنجاب الزوجين تسعة أطفال (أحدهم وُلد ميتاً)، وبعد نحو 30 عاماً من الزواج، انفصلا عام 1982 – والسبب في ذلك هو “ميوله المتحررة”، كما يقر بذلك ألفورد في سرده لما حصل – وقد توفيت نورما عام 2013. ويقول في هذا الإطار: “لسوء الحظ، مررنا ببعض الظروف في حياتنا، لكن تخللتها ذكريات جميلة”.
واجه ألفورد كثيراً من العنصرية بعد وصوله إلى بريطانيا – بدءاً من الصعوبات التي عاناها في بداياته للحصول على وظيفة لأنه كان أسود، مروراً بمحاولات الترهيب التي كان عرضة لها عندما وجد عملاً، وصولاً إلى نضاله الطويل من أجل تأمين مكان للإقامة فيه، والمواقف التي لقي فيها رفضاً من جانب أفراد لا يحبذون أن تكون له علاقة بامرأة بيضاء.
ويقول في هذا الإطار: “لقد اختبرت العنصرية طيلة حياتي – لم يكن هناك مفر منها – لكنني بذلت قصارى جهدي كي لا أدع ذلك يزعجني أو يؤثر فيّ”.
وأضاف: “كنت أتجنب ارتياد الأماكن التي كنت أعرف أن وجودي يمكن أن يكون غير مرغوب فيه. وإذا ما قصدت مكاناً وأدركت أنني لا أنتمي إليه، أهم على الفور بمغادرته”.
ثم كان هناك بعض أصحاب البشرة البيضاء الذين شعروا بأن الوافدين الجدد “يسرقون وظائفهم” – تماماً كالخطاب المناهض للمهاجرين الذي نسمعه اليوم.
ويقول: “عندما عدنا إلى إنجلترا عام 1948، جئنا للمساعدة في إعادة بناء البلاد وليس لسرقة وظائف الشعب البريطاني. لم يفهم كثيرون ذلك. كان هناك عدد كبير من العاطلين من العمل الذين لم يكونوا راغبين في العمل، لكنهم لم يطيقوا رؤية آخرين يأتون ويجدون عملاً. كنت ببساطة أتمنى لهم حظاً سعيداً، ولم أدع أياً من ذلك يزعجني. حصلت على وظيفة وعملت بجد. كنت دائماً أعمل بجد، إذ كانت لدي عائلة للاعتناء بها”.
قبيل انطلاق حدث “ويندراش 75” الذي يصادف الذكرى الـ75 لوصول باخرة “إمباير ويندراش”، أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز الأبحاث “المستقبل البريطاني” British Future أن ثلثي أفراد الأقليات العرقية في بريطانيا (67 في المئة)، يعتقدون بأن البلاد ما زال أمامها شوط طويل لتقطعه في مجال تحقيق المساواة بين الأعراق، بحيث يواجه السود والآسيويون التمييز في حياتهم اليومية داخل البلاد.
لكن ألفورد يشعر بعد سبعة عقود، بأنه تم إحراز تقدم على مر الأعوام. ويقول: “كانت العنصرية أسوأ بكثير مما هي عليه الآن. لقد تحسنت الأمور، لكن ما زال أمامنا طريق طويل. بريطانيا بخير. والأمور باتت مختلفة هذه الأيام”.
وفي إطار حديثه عن أعوام طفولته في جامايكا بود شديد، يقول ألفورد الذي تقاعد عام 1981 والذي كان واحداً من بين 11 طفلاً، انتقل والداه لافينيا وإدوارد غاردنر من بلدتهم الأم كينغستون، حيث أقاموا بين ساحل سانت جيمس والعاصمة مونتيغو باي: “في ما يتعلق بنشأتي في جامايكا، كان كل يوم لا ينسى. لقد عشت حياة جميلة جداً وخالية من المشكلات”.
ويضيف: “كان والداي صارمين جداً. لكن أمي على وجه الخصوص، كانت محبة للغاية وجميلة. وكان يبدو لي دائماً أنها تعرف مكاني، وماذا كنت أقوم به، ومتى سأعود إلى المنزل، سواء كنت قريباً أو بعيداً منها. حظيت في الواقع بكثير من النساء الجميلات من حولي، بدءاً من والدتي وجدتي وصولاً إلى خالاتي”.
من بين أشقائه الكثيرين، ما زالت لديه شقيقة وشقيق على قيد الحياة – هما باميلا وسامويل – ويعيش كلاهما في الولايات المتحدة.
في وقت تستعد بريطانيا للاحتفال بالذكرى الـ75 لسفينة “ويندراش”، يفكر كثيرون في المساهمات التي قدمها هؤلاء الرواد الكاريبيون.
ويتساءل ألفورد: “الوقت مر بسرعة. هل فعلاً مر 75 عاماً؟ لا يمكنني أن أخبرك كيف قطعت تلك الأعوام”، مشيراً إلى أن الأمر يبدو وكأنه “الأمس القريب”.
مع ذلك، يشعر كثيرون بأن تلك المرحلة كانت حلوة ومرة في آن واحد، خصوصاً بعد ظهور “فضيحة ويندراش” عام 2017، حين فقد كثير من المواطنين البريطانيين – ومعظمهم من منطقة البحر الكاريبي – منازلهم ووظائفهم، وحرموا من الحصول على الرعاية الصحية أو أي مزايا أخرى. وتعرضوا للتهديد بالترحيل على رغم أنه كان يحق لهم العيش في المملكة المتحدة.
ويجزم ألفورد بأن وزارة الداخلية أساءت إلى الضحايا، ويرى أنه يتعين عليها تصحيح ما قامت به، ويقول: “ما زال الناس ينتظرون تعويضاً عما لحق بهم”.
بعدما شارف على المئة تقريباً، لا يزال ألفورد – الذي يعد شخصاً من اثنين فقط ما زالوا على قيد الحياة من بين الذي جاؤوا على متن رحلة “إمباير ويندراش” الأولى – مفعماً بالحياة والنشاط، ويتطلع بحماسة إلى الذهاب يومياً إلى قاعة البينغو. ويعلق بالقول: “إن ذلك يجعل اليوم يمر بسرعة. أفوز تارة وأخسر تارة أخرى، لكنني أستمتع بوقتي. فقد كبرت في السن كي أقوم بأعمال البستنة، على رغم أنني كنت دائماً أستمتع بها. لذا أهوى لعبة البينغو التي تساعدني على الاسترخاء لبضع ساعات”.
إذا سار كل شيء على ما يرام، يخطط ألفورد للسفر إلى جامايكا في شهر يوليو (تموز) المقبل، حيث سيتسنى له الاستمتاع بتناول مأكولاته المحلية المفضلة مثل فواكه “أكي” الاستوائية والسمك المملح والبازلاء والبطاطا والموز.
ويقول متأملاً: “إنني سعيد بالحياة التي عشتها على مر الأعوام، لكن هناك شيئاً واحداً ينقصني: المال”.
هناك أمور يود القيام بها، كتمضية الوقت مع العائلة خارج منطقة ليدز، لكن الإمكانات المادية غير متوافرة في الوقت الراهن. وفي ما يتعلق بإلإرث الأكبر الذي يخلفه وراءه، يعتبر المسافر على “ويندراش” نفسه بأنه شخص يحب عائلته بشدة، من أكبر أفرادها إلى أصغرهم سناً.
ويقول: “لقد ربيت أطفالي على أهمية الصدق مع أنفسهم. أنا أحب عائلتي. نشأت في كنف عائلة كبيرة. ويسعدني أن أرى أن أطفالي أبلوا بلاءً حسناً”.
ويضيف: “لقد تربيت على ثلاثة عناصر: الأسرة والموسيقى والرياضة”، ويذكر أنه أمضى أعوام طفولته مرتلاً في جوقة الكنيسة التي كانت في منطقته.
ويتابع: “أحب ممارسة رياضة الكريكيت وكرة القدم. جربت أموراً كثيرة، على رغم أنني لا أتقن أياً منها. الموسيقى تتغير على مر الأعوام، لكنني أحب الأنغام الجميلة. لا شيء يضاهي جوقة موسيقية جيدة – أما تلك المفضلة لدي، فهي جوقة “هللويا” Hallelujah. أحب آلة الأرغن ذات الأنابيب، ومزامير القربة (المرتبطة بالثقافتين الاسكتلندية والإيرلندية) التي تعزف ألحاناً رنانة وأنغاماً مميزة وفريدة”.
رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
الموقع :www.independentarabia.com