التطبيع العربي مع إسرائيل.. وظفه الاحتلال لتهويد القدس والأقصى

تقرير اخباري- لعدّة سنوات، أخذت العلاقات السرّية بين إسرائيل وبعض من الدول العربية الخليجية تتطوّر بعيداً عن الأضواء. وفيما لا تبدي إسرائيل خجلاً حيال هذه العلاقات، أمِلَت الدول الخليجية أن تُبقي تقاربها من إسرائيل طيّ الكتمان لأسباب بديهية متعلّقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. غير أنّ التحرّك الدبلوماسي العلني المتزايد قد كشف الستار عن هذه العلاقات وأشار إلى بروز زخمٍ محتمل نحو إقامة علاقات رسمية للمرّة الأولى.
في 15 أيلول/سبتمبر 2020، جمع الرئيس الأمريكي في ذلك الحين دونالد ترامب مجموعة غير عادية من سياسيي الشرق الأوسط في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض، وهم: رئيس وزراء إسرائيل ووزير خارجية الإمارات العربية المتحدة ووزير خارجية البحرين. ولم تكن الإمارات قد اعترفت رسمياً بإسرائيل أبداً، وكانت البحرين قد أرجأت فتح سفارة هناك. وفي الماضي غير البعيد، قاطعت الدولتان إسرائيل. ولكن الدول الثلاث اجتمعت معاً لتجاوز هذا التاريخ الفاتر من خلال التوقيع على “اتفاقيات إبراهيم” بوساطة الولايات المتحدة، والتي اتفقت فيها على إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية.
وكانت الاتفاقيات بحد ذاتها بسيطة. وفي حالة الاتفاق البحريني الإسرائيلي، لم يتطلب التطبيع سوى صفحة واحدة ولكن تأثيره كان عميقاً. فمنذ قيام إسرائيل، رفضت جميع الدول العربية تقريباً الاعتراف بوجودها. ولكن هذه التفاقيات تقضي على هذا الحظر، وتفتح بذلك آفاقاً جديدة للتعاون وتبشر بإعادة ترتيب جذري للشرق الأوسط. ولم تأتِ الاتفاقيات من العدم، حيث كانت الشراكة غير المكتملة قائمة بين إسرائيل والدول العربية المحافظة قبل عام 2020 بفترة طويلة، وقد حفزتها الثورات العربية في عام 2011 والمخاوف المشتركة بشأن إيران و«الإخوان المسلمين»، من بين تهديدات أخرى. ولكن “اتفاقيات إبراهيم” من شأنها تطوير هذه العلاقات بقوة، مع ما يترتب على ذلك من نتائج اقتصادية وجيوسياسية مهمة.
ومن المحتمل أن تكون هذه النتائج إيجابية للغاية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. فجميع الموقعين هم شركاء لواشنطن، ويمكنهم معاً تأمين طلب لطالما سعت واشنطن إلى تحقيقه: كتلة من دول الشرق الأوسط يمكنها حماية المصالح الأمريكية، مما يسمح للولايات المتحدة بالخروج من المنطقة. ولكن الواقع أكثر تعقيداً. فسوف تجد واشنطن أن العمل من خلال الشركاء يقلل من قدرتها على التأثير على نتيجة الصراعات الرئيسية في المنطقة، بما في ذلك في ليبيا واليمن ومع إيران – جميع الدول التي تختلف فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها في وجهات النظر. ويشعر أصدقاء واشنطن في الشرق الأوسط بالقلق أيضاً من الانجرار إلى منافستها المتزايدة مع الصين، وهي دولة يعتبرونها فرصة وليس تهديداً. وقد يكونون حذرين من ربط أنفسهم بشكل وثيق جداً بواشنطن في مجالات أخرى أيضاً. وأحد الاتجاهات التي تقرّب شركاء أمريكا من بعضهم البعض هو ما يعتبرونه تراجعاً في موثوقية الولايات المتحدة وإمكانية التنبؤ بأفعالها.
لكن من الخطأ التفكير في “اتفاقيات إبراهيم” على أنها تشكل، على نحو كامل أو حتى في الغالب، فرصة أو مخاطرة لواشنطن، إذ تخلّف تداعيات أكبر بكثير على منطقة الشرق الأوسط نفسها.
وستشجع الاتفاقيات ترسيخ التكامل الاقتصادي في منطقة من العالم لم تشهد سوى القليل من ذلك. وستجذب مستثمرين من خارج الشرق الأوسط الذين يرون حالياً فرصاً أفضل، مما يؤدي إلى تعزيز النمو في المنطقة بشكل عام. وقد تؤدي الاتفاقيات إلى زيادة عدد الدول ذات الأغلبية المسلمة من خارج الشرق الأوسط المستعدة للعمل مع إسرائيل. وفي الواقع، لقد حققت ذلك فعلاً، إذ أبرم كل من المغرب والسودان اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل بعد وقت قصير من توقيع “اتفاقيات إبراهيم”. وستمهد الاتفاقيات الطريق لتأمين مستوى من التعاون السياسي والأمني بين إسرائيل والدول العربية كان يعتبر في السابق غير وارد، مما قد يؤدي إلى إنشاء تحالف من شأنه أن يساهم في تهدئة النزاعات الإقليمية أو ردع دول مثل إيران دون دعم من التدخل الخارجي.
تضافر الجهود
في العواصم الغربية، يُنظر إلى “اتفاقيات إبراهيم” على أنها الخطوة التالية في عملية صنع السلام في الشرق الأوسط المستمرة منذ عقود. فقد أعاد حفل التوقيع إلى الذاكرة مشاهد مماثلة من عاميْ 1978 و 1994، مع صور لزعماء من المنطقة والرئيس الأمريكي جالسين على طاولة في البيت الأبيض. وساهم حفل عام 1978، الذي أقيم لتوقيع اتفاقيات “كامب ديفيد”، في إحلال السلام بين مصر وإسرائيل وإعادة شبه جزيرة سيناء إلى السيطرة المصرية. أما اجتماع عام 1994 فكان مخصصاً لاتفاقية السلام الإسرائيلية – الأردنية، التي حسمت الخلافات على الأراضي بين الدولتين وأنهت حربهما رسمياً.
وأدى الاتفاقان إلى تضييق نطاق الصراع العربي الإسرائيلي إلى حد كبير، إلا أنهما أنتجا في أحسن الأحوال سلاماً بارداً. وفي المقابل، يمكن لـ “اتفاقيات إبراهيم” أن تبني شراكة استراتيجية أعمق. فقد أبرمت أطراف الاتفاقيات صفقات ليس لإنهاء النزاعات فحسب، ولكن لأن السياسة العامة في المنطقة دفعت هذه الأطراف إلى التقارب. وساعدت ثورات “الربيع العربي” التي انطلقت في أواخر عام 2010 وأغرقت الدولتيْن النافذتيْن التقليديتيْن، مصر وسوريا، في حالة من الاضطراب، في تحويل مركز ثقل المنطقة إلى دول الخليج العربي، كما شجعها على الشروع في مبادرات إقليمية كبرى دون مراعاة القاهرة أو دمشق. وبفعل الثورات أيضاً، واجهت الحكومات العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة مجموعة متنوعة من التهديدات، من بينها القوة المتنامية لجماعة «الإخوان المسلمين» والجماعات الإسلامية الأخرى، وعدم الاستقرار الداخلي الذي يتطلب تحولاً اقتصادياً وسياسياً، وإيران التي تسعى إلى استغلال الاضطرابات في المنطقة خدمةً لمصالحها الخاصة. وأخيراً، أثار “تحول الولايات المتحدة نحو آسيا” شعوراً متزايداً بالوحدة والقلق لدى هؤلاء الحلفاء.
لقد بدأ الكثيرون في البحث عن شركاء جدد، وسرعان ما اكتشفوا أن إسرائيل، بجيشها القوي واقتصادها المتين، يمكن أن تكون صديقاً قيّماً. والمسار الذي انتهجته مؤخراً الإمارات العربية المتحدة هو خير مثال على ذلك. وكان المسؤولون الأمريكيون يطلقون على البلاد تسمية “سبارتا الصغيرة” بسبب استعدادها وقدرتها على التعاون مع واشنطن في الأمور الأمنية. ولكن نظراً لتراجع الانخراط الأمريكي والضغوط الجديدة، قررت أنها تريد أن يُنظر إليها على أنها “سنغافورة الصغيرة” على حد قول المسؤولين الإماراتيين: أي دولة ليست قادرة على الاستفادة من ثروتها وانفتاحها لجذب المستثمرين الدوليين فحسب، بل مؤهلة أيضاً على أن تكون جسراً للقوى الخارجية إلى منطقتها. فبقيادة ولي العهد الطموح محمد بن زايد، قلصت الإمارات في النهاية من تدخلها في اليمن بصورة ملحوظة – هاربةً إلى حد كبير من الازدراء الدولي. كما سعت إلى وقف التصعيد مع منافسيها الإقليميين: إيران وقطر وتركيا. وفي هذا السياق، لم يشكّل التطبيع مع إسرائيل تطوراً صادماً ومعزولاً، بل كان مركز وسط في التفافة الدولة، ووسيلة مباشرة للإمارات العربية المتحدة لحماية نفسها والازدهار في ظل تزايد عدم اليقين الجيوسياسي.
وأرست إسرائيل والإمارات شراكتهما في التعاون الاقتصادي، وقد فعلتا ذلك بنجاح كبير، إذ تجاوزت قيمة التجارة الثنائية الإسرائيلية – الإماراتية المليار دولار في عام 2021، بعد أن بلغت 180 مليون دولار في عام 2020، بفضل النشاط المتزايد في قطاعات الألماس والسلع الصناعية والسياحة والخدمات. وتهدف الدولتان إلى إبرام اتفاقية تجارة حرة هذا العام، ستضيف، وفقاً لتقديرات “مؤسسة راند” (RAND)، 0.8% إلى “الناتج المحلي الإجمالي” لدولة الإمارات على مدى العقد المقبل. وتتوقع “مؤسسة راند” أن تؤدي اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية مع البحرين والمغرب والسودان والإمارات إلى زيادة “الناتج المحلي الإجمالي” لإسرائيل بنسبة 2.3% خلال الفترة الزمنية ذاتها. كما وقعت إسرائيل والإمارات اتفاقية استثمار ثنائية في أواخر عام 2020، وهي الأولى مع دولة عربية.
لكن الوعد الاقتصادي الفعلي للاتفاقيات يكمن في قدرتها على إحداث تكامل اقتصادي إقليمي أوسع نطاقاً. فلطالما تخلّفت منطقة الشرق الأوسط عن كل مناطق العالم تقريباً على هذا الصعيد. ففي أوروبا، على سبيل المثال، تجري نسبة 66% تقريباً من العمليات التجارية بين الدول الأوروبية. أما في الشرق الأوسط، فتقل هذه النسبة عن 13%. ووفقاً لـ “مؤسسة راند”، فإن اتفاقية تجارة حرة متعددة الأطراف بين دول البحرين وإسرائيل والمغرب والسودان والإمارات فقط من شأنها أن ترفع “الناتج المحلي الإجمالي” في كل بلد بما يقدر بنحو 2% – 3%، فضلاً عن تحفيزها لمكاسب التوظيف.
ولكن ذلك لن يعالج جميع المشاكل الاقتصادية في المنطقة، إلا أنه سيشكل خطوة هامة نحو معالجة العديد من القضايا، بما فيها ارتفاع معدلات البطالة ونقص الاستثمار في القطاع الخاص، التي تزيد من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
ولا يشكل النمو الاقتصادي الفائدة الوحيدة الممكنة للاتفاقية. وتختلف الأولويات العسكرية لإسرائيل والإمارات، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الإمارات لا ترغب في استفزاز إيران أو تصوير شراكتها الجديدة مع إسرائيل على أنها تستهدف خصومها في المنطقة. ولكن لدى إسرائيل والإمارات مصلحة مشتركة في ردع طهران ومواجهة الجماعات الإرهابية في المنطقة، وتتخذ الدولتان خطوات أولية نحو تعاون أمني مفتوح. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2021، وللمرة الأولى، حضر قائد سلاح الجو الإماراتي مناورة “العلم الأزرق” الإسرائيلية المتعددة الأطراف بصفة مراقب. وعرضت إسرائيل تقديم مساعدة “أمنية وعسكرية” لأبوظبي بعد أن هاجمت مليشيا الحوثي العاصمة في كانون الثاني/يناير 2022. ويمكن أن تعمق الاتفاقيات هذه العلاقة. وبعد فترة وجيزة من توقيع الاتفاقية، أضيفت إسرائيل إلى مسؤوليات “القيادة المركزية الأمريكية” (CENTCOM)، مما أدى إلى تحقيق إنجازات كانت تبدو في السابق غير محتملة للغاية. وتم إدراج إسرائيل، على سبيل المثال، ضمن تمرين لـ “القيادة المركزية الأمريكية” في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 والذي شمل أيضاً سلاح البحرية البحريني ونظيره الإماراتي. ويعني توسيع “القيادة المركزية الأمريكية” أيضاً أنه ستتاح الفرصة الآن للضباط الإسرائيليين والعرب لبناء علاقات في كليات الأركان، والقواعد في المنطقة، والأحداث التي تنظمها واشنطن.
ويتمثل أهم جانب من عدم اليقين المتعلق بـ “اتفاقيات إبراهيم” بما ستعنيه للدبلوماسية. فإسرائيل والأطراف الموقعة الأخرى منخرطة بشكل متداخل في النزاعات في جميع أنحاء المنطقة، لكنها امتنعت عن تبني مواقف مشتركة. فقد صوتت كل من البحرين والسودان مؤخراً في “مجلس حقوق الإنسان” التابع للأمم المتحدة لإجراء تحقيق مفتوح في الأعمال الإسرائيلية في غزة. وتتمتع إسرائيل والإمارات بعلاقة أفضل، حيث كانت كلتا الدولتين متحمستين بشأن الاتفاقية وشاركتا في موجة من الزيارات المتبادلة الرفيعة المستوى منذ توقيعها.
ولكن ربما لأن الإمارات تقدر فكرة الوحدة العربية أو لأنها تريد ببساطة تجنب توريط شراكتها الجديدة في الجدل، فقد ابتعدت التصريحات الإسرائيلية الإماراتية بشكل عام عن النزاعات السياسية في المنطقة.
إن ذلك يسلط الضوء على أحد القيود الرئيسية للاتفاقيات. فطالما لم تعترف الدول العربية الأخرى بإسرائيل، فمن المرجح أن يبقى التنسيق السياسي بين إسرائيل والأطراف الموقعة الأخرى ظرفياً، والإمكانيات الدبلوماسية للاتفاقيات ناقصة، مما يعني أن منطقة الشرق الأوسط ستظل تفتقر إلى آلية حقيقية متعددة الأطراف للتعامل مع النزاعات الإقليمية الرئيسية، على الرغم من حاجتها الماسة إليها.
التأثير المضاعف
قبل عام 2011، كان النظام السائد في الشرق الأوسط عبارة عن نظام محوري تقع الولايات المتحدة في مركزه. وتعاونت دول رئيسية في المنطقة، مثل مصر وإسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا، على نطاق واسع مع واشنطن ولكن التعاون فيما بينها كان محدوداً. وانطبق ذلك في كثير من الأحيان حتى على الدول المتحالفة رسمياً. على سبيل المثال، في السنوات الأولى من القرن الحالي، واجه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن صعوبات في محاولته إقامة حوار أمني خليجي لأن دول الخليج العربية كانت مترددة في التعامل مع الولايات المتحدة ضمن تنسيق متعدد الأطراف خوفاً من إضعاف العلاقات الخاصة التي كانت تجمعها بواشنطن.
لكن هذا النظام انهار في أعقاب حرب العراق و”الربيع العربي”. فقد أدت تلك الحرب في النهاية إلى إرهاق حاد لدى الأمريكيين تجاه الشرق الأوسط، وأدى “الربيع العربي” إلى الإطاحة بالكثير من الشركاء القدامى للولايات المتحدة. وتخضع المنطقة حالياً لتكتلات قليلة مخصوصة من الدول: “محور المقاومة” الذي تقوده إيران ويضم لبنان وسوريا ومجموعات مختلفة تعمل بالوكالة عن إيران في العراق واليمن، وتكتل إسلامي يضم قطر وتركيا، وتكتل يميل للولايات المتحدة مؤلف من مصر وإسرائيل والأردن والعديد من دول الخليج العربية.
وكانت “اتفاقيات إبراهيم” المحاولة الأولى لإضفاء طابع رسمي على إحدى هذه التكتلات، وقد أثار هذا الجهد مسألة ما إذا كانت الدول الأخرى ذات الميول الأمريكية قد تنضم إلى التكتل، كما فعل المغرب. ومن غير المرجح أن يفعل بعض شركاء الولايات المتحدة، مثل العراق وسلطنة عمان، ذلك. فهاتان الدولتان تبذلان قصارى جهدهما لتحقيق التوازن في علاقاتهما مع طهران وواشنطن. وكانت قطر قد استضافت مكتباً تجارياً إسرائيلياً في الدوحة لسنوات، ولكن من المرجح أيضاً أن تتجنب تطبيع العلاقات مع إسرائيل خوفاً من الإساءة إلى خصوم إسرائيل في المنطقة. ولكن هناك أطراف موقعة محتملة أخرى، مثل جزر القمر وموريتانيا والمملكة العربية السعودية. وبالنسبة لإسرائيل، ستكون السعودية بمثابة جائزة كبرى. فالمملكة العربية السعودية هي في الوقت نفسه رائدة في العالم الإسلامي وجهة فاعلة أكبر بكثير من الإمارات العربية المتحدة في الاقتصاد العالمي. وبالتالي، فإن تطبيع العلاقات مع السعودية من شأنه أن يؤدي إلى تعزيز مكانة إسرائيل إلى حد كبير لدى الدول الحذرة عادةً منها، وتعزيز نموها، وربما فتح آفاق جديدة للتعاون العسكري.
لقد أصبحت علاقة إسرائيل والمملكة العربية السعودية أكثر ودية في السنوات الأخيرة، فكلتاهما تنسقان بهدوء بشأن بعض القضايا الأمنية. ولكن العقبات أمام التطبيع ما زالت كبيرة. سيتعين على الرياض أن تتخلى أو تعدل ضمنياً مبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك الراحل عبد الله، والتي وضعت السلام الإسرائيلي الفلسطيني كشرط مسبق لتطبيع عربي أوسع نطاقاً، كما سيتعين عليها التغلب على شكوك مواطنيها الذين يتخطى عددهم بكثير عدد مواطني الإمارات وهم ربما أقل اعتدالاً منهم. كما أن دور الولايات المتحدة في الصفقة الإسرائيلية السعودية سيكون مشحوناً بصورة أكثر. ففي السنوات الأخيرة، سعى الكونغرس الأمريكي مراراً وتكراراً إلى معاقبة الرياض لمشاركتها في حرب اليمن وقتلها جمال خاشقجي، الذي كان مقيماً دائماً في الولايات المتحدة، وكاتب عمود في صحيفة “واشنطن بوست”، ومنتقداً للحكومة السعودية. وقد ترفض واشنطن أن تَعْرِض على الرياض المغريات ذاتها التي قدمتها لأبوظبي وغيرها من الأطراف الموقعة على الاتفاقيات، مثل بيع مقاتلات الشبح من طراز “إف-35” (F-35) أو التعاون النووي في المجال المدني.
لكن على المدى الطويل، يبدو أن التطبيع مع إسرائيل يتماشى مع نظرة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى العالم. فقد سعى الأمير محمد إلى تغيير اقتصاد السعودية ومجتمعها ودورها الإقليمي، بما في ذلك من خلال تقليص دعم الرياض للأصولية الإسلامية والحد من اعتماد الاقتصاد السعودي على صادرات النفط والغاز. ويمكن القول إن التطبيع مع إسرائيل من شأنه أن يزيد من انفتاح البلاد ويعزز الصورة السياسية للرياض، كما سيحرم أبوظبي، شريكة الرياض ومنافستها في الوقت نفسه، من ميزة نسبية في نظر المستثمرين والدبلوماسيين.
ولكن حتى إذا لم تنضم أي دول إضافية إلى “اتفاقيات إبراهيم”، فمن المحتمل أن يكون للاتفاق تأثير أوسع على العلاقات الخارجية لإسرائيل. فالاتفاقيات قد تمنح غطاءً للدول ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط وخارجه، مثل إندونيسيا، للانخراط في تعاون أكبر مع إسرائيل، حتى لو امتنعت عن تطبيع العلاقات. وأدت الاتفاقيات بالفعل إلى مزيد من التعاون المتعدد الأطراف بين الدول الموقعة وشركاء إسرائيل في السلام من “الجيل الأول”: مصر والأردن. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2021، على سبيل المثال، أعلنت إسرائيل والأردن والإمارات عن صفقة ستُنتج بموجبها الإمارات الكهرباء في الأردن وتبيعها لإسرائيل، والتي بدورها ستزود الأردن بالمياه المحلاة. وكان من الممكن تنفيذ هذا التبادل بين إسرائيل والأردن قبل الاتفاقيات، ولكن مشاركة الإمارات جعله أكثر جاذبية اقتصادياً وسياسياً.
ويمكن لـ “اتفاقيات إبراهيم” أن توسع أيضاً نطاق التعامل الدولي مع الشرق الأوسط. فقد ساعدت الاتفاقيات أساساً في تمهيد الطريق للمنتدى الرباعي بين الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة، والذي تم الإعلان عنه في تشرين الأول/أكتوبر 2021. وأُطلق المنتدى لأسباب اقتصادية، ولكنه قد يتوسع في النهاية ليشمل مجالات أخرى، مثل الأمن البحري. ويمكن أن تجعل الاتفاقيات أيضاً من إسرائيل والإمارات شريكي الملاذ الأول للدول الخارجية التي تتطلع إلى التعامل مع المنطقة. وبدورها، قد تغري هذه الديناميكية دولاً إضافية للانضمام إلى الاتفاقية خشية خسارتها مكاسب منتظرة.
ويقيناً، تولّد “اتفاقيات إبراهيم” تحديات أيضاً. فقد تقلل من بروز القضية الفلسطينية، التي تتراجع أهميتها الدولية منذ عقود. ولا ترتكز الاتفاقيات على أعراف أو تقاليد سياسية مشتركة، ولذلك فمن غير المرجح أن تعزز حقوق الإنسان في الشرق الأوسط. بل إن هناك مخاطرة أن تأمل الدول في استغلال الثناء الدولي الذي يأتي من تطبيع العلاقات مع إسرائيل لصرف الانتباه عن هذه القضايا. ومع ذلك، فإن أي سلبيات للاتفاقيات تتضاءل مقارنة بالمزايا التي توفرها للأطراف الموقعة، والمنطقة الأوسع نطاقاً، وفي الواقع، لصناع السياسات في واشنطن.
القوة تستيقظ
في الولايات المتحدة، احتفى القادة من مختلف الأطياف السياسية بـ”اتفاقيات إبراهيم”، من ترامب إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن، وليس فقط لأن الصفقة تبشّر بتنامي التطبيع العربي الإسرائيلي. فصانعو السياسات من كلا الحزبيْن يؤمنون بأن الاتفاقيات يمكن أن توفر لواشنطن مخرجاً من معضلة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تريد التركيز بدرجة أقل على هذه المنطقة وبصورة أكثر على آسيا، إلا أنها تحتفظ بمصالح مهمة في الشرق الأوسط، بما في ذلك منع الهجمات الإرهابية، ومنع إيران من الحصول على سلاح نووي، وحتى التنافس مع الصين. وتتمثل الطريقة الأسهل لإدارة هذه القضايا بالاستعانة بمصادر خارجية، وفي نظرة أولية، يبدو أن الاتفاقيات تقدم مثل هذه الفرصة على وجه التحديد.
إلّا أن هذه الإمكانية تعقدها المكانة المتراجعة للولايات المتحدة في المنطقة. فالاتفاقيات لا يمكنها، على سبيل المثال، تخفيف الضرر الناجم عن الحزبية المتزايدة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وأصبحت العلاقة الأمريكية السعودية، التي كانت حميمة خلال إدارة ترامب، فاترة في عهد بايدن، وترى أبوظبي أن واشنطن انقلبت فجأة ضد العمليات العسكرية للإمارات في اليمن لأسباب سياسية داخلية. وأصبحت العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل عالقة بشكل متزايد في الخلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين، بحيث أصبح بعض الديمقراطيين أكثر انتقاداً لإسرائيل وأصبحت القضايا المتعلقة بالدولة – من بينها إيران والصراع الإسرائيلي الفلسطيني – أكثر إثارة للجدل في كل من إسرائيل والولايات المتحدة.
والأهم من ذلك، ليس بإمكان الاتفاقيات إصلاح التباعد الاستراتيجي الآخذ في الاتساع بين الولايات المتحدة وشركائها في المنطقة. وخلافاً لما حدث أثناء الحرب الباردة و”الحرب على الإرهاب”، لا يشارك أقرب حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط وجهة نظرها بشأن التهديدات العالمية اليوم، وهم حذرون من الوقوف إلى جانب واشنطن ضد خصومها، لأن ذلك قد يكلفهم فرصاً اقتصادية ولأنهم غير متأكدين من موثوقية الولايات المتحدة.
لكن الاتفاقيات يمكنها مع ذلك أن تسمح لواشنطن بالتقدم في أهدافها الاستراتيجية. فتعزيز التكامل الإقليمي يمكن أن يساعد بحد ذاته الولايات المتحدة، بما في ذلك عبر إبعاد بعض الاستثمارات الصينية التي تقلق واشنطن. على سبيل المثال، بعد توقيع الاتفاقيات، دخل تكتل شركات (“56 World”) الإماراتي في شراكة مع “بنك لئومي” الإسرائيلي، يمكن أن تسمح لهما بتطوير موانئ إسرائيل بصورة مشتركة.
وكانت النتيجة منافسة ذات مصداقية مع شركات تطوير الموانئ الصينية المملوكة للدولة، وهو أمر لاقت الدول الغربية صعوبة في تحقيقه. ويمكن أن يحصل ذلك في قطاعات أخرى أيضاً. على سبيل المثال، يمكن للمشاريع الإقليمية المشتركة التي تجمع ما بين التكنولوجيا الإسرائيلية ورأس المال الإماراتي، أن تتحدى الهيمنة الصينية على قطاعي الاتصالات والبنية التحتية بنجاح أكبر من المبادرات الغربية.
وسيثبت التكامل فعاليته بشكل خاص في تقليص الاستثمار الصيني إذا زادت الاتفاقيات من التعامل الاقتصادي بين الشرق الأوسط والقوى الخارجية التي كانت قلقة في السابق من الديناميكية العربية الإسرائيلية المشحونة، مثل الهند واليابان و”الاتحاد الأوروبي”. وستسعى الصين أيضاً إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية التي أوجدتها “اتفاقيات إبراهيم”. وتتمثل أفضل فرصة لواشنطن لمواجهة أي خروقات من جانب بكين في تجنيد قوى خارجية أخرى للاستثمار كثقل موازن.
يمكن لشراكة إقليمية أن تساعد أيضاً في حماية الدول المنفردة من النفوذ الصيني. ولا يشكل ذلك مصدر قلق بسيط. ففي السنوات الأخيرة، أصبحت بكين أكثر جرأة في استخدام قوتها الاقتصادية لتعزيز غاياتها السياسية، مهددةً دولاً من أستراليا إلى ليتوانيا لمحاولة إخضاعها. وعلى الرغم من أن ذلك لم يحدث بعد في الشرق الأوسط، إلا أن دول المنطقة ستحتاج إلى دعم بعضها البعض إذا حدث ذلك، ويمكن أن توفر “اتفاقيات إبراهيم” أداة مهمة للقيام بذلك. وقد تؤدي الحاجة إلى الحماية الاقتصادية حتى إلى تحفيز الدول الأصغر حجماً أو الأكثر فقراً في منطقة الشرق الأوسط للانضمام إلى الاتفاقيات.
ويمكن للاتفاقيات أن تعزز أيضاً التعاون بين الأطراف الموقعة والجيش الأمريكي، حتى لو لم تتوسع الصفقة لتشمل شراكات أمنية رسمية مع الولايات المتحدة.
وتعتمد الأطراف الموقعة أصلاً على الهندسة العسكرية التعاونية لواشنطن. وتعتمد إسرائيل والإمارات بشكل كبير على الولايات المتحدة في المعدات العسكرية، وتشاركان على نطاق واسع في تمارين “القيادة المركزية الأمريكية” وتدريباتها. وقد تحاول روسيا ودول أخرى بيع منظومات عسكرية إلى الأطراف الموقعة، ولكن في المستقبل المنظور، لن تتمكن أي قوة خارجية أخرى من منافسة الحزمة الأمنية التي تقدمها واشنطن. وفي الواقع، ستعزز “اتفاقيات إبراهيم” ميزة الولايات المتحدة من خلال تحفيز المزيد من الدول على الارتباط بواشنطن، بحيث أن البلدان التي تتطلع إلى الانضمام إلى الشراكة ستكتسب قيمة أكبر، فقط من خلال التواؤم مع النظام العسكري الأمريكي الذي يشكل ركيزتها.
وسوف يستغرق الأمر بعض الوقت لتحقيق جميع هذه الفوائد، وسيتعين على واشنطن التحلي بالصبر. وسوف تحتاج أيضاً إلى بذل بعض الجهود. وفي المجالين الدبلوماسي والأمني، سيتعين على الولايات المتحدة الاستمرار في لعب دور الجهة الجامعة وفي بعض الأحيان العمل كوسيط. وستحتاج إلى تعزيز القدرات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية لشركائها باستمرار لكي يتمكنوا من تحقيق نتائج حاسمة دون تدخل مباشر من واشنطن. ولتوسيع التحالف، قد تضطر الولايات المتحدة إلى ترغيب الصفقة للدول المعنية من خلال تقديم حوافز لها للانضمام، مثل تكثيف التعاون الدبلوماسي والأمني مع واشنطن، أو المعاملة التجارية والضريبية التفضيلية، أو المساعدة المالية للمشاريع المنفذة بين الأطراف الموقعة. ويسلط ذلك الضوء على حقيقة مرة لصانعي السياسات في الولايات المتحدة: فقد تشير “اتفاقيات إبراهيم” إلى مستقبل تستطيع فيه الولايات المتحدة أن تفعل القليل في الشرق الأوسط – ولكن للوصول إلى تلك المرحلة، على واشنطن أن تفعل المزيد أولاً.
التطبيع العربي يتجاوز فلسطين
إذا رأى البعض أن إصرار مصر على الحكم الذاتي الفلسطيني خلال معاهدة السلام التي عقدتها مع إسرائيل في العام 1979، وقيام إسرائيل بـ”تعليق” ضم الضفة الغربية في سياق صفقتها مع الإمارات يشيران إلى أن إشراك فلسطين هو شرط أساسي تتستّر به اتفاقيات التطبيع العربية مع إسرائيل، فإن ذلك الانطباع صحيح جزئياً فحسب. فبالنسبة لمصر، التي خاضت خمس حروب مع إسرائيل خلال ثلاثة عقود ولها حدود مع إسرائيل وقطاع غزة، كانت فلسطين وما زالت مسألة أمن قومي من الدرجة الأولى. ومهما يكن رأي المرء في أداء القاهرة في دبلوماسية الصراع العربي-الإسرائيلي، فإن مصر قد استثمرت قدراً كبيراً من مواردها لتبقى لاعباً أساسياً فيه.
على النقيض بالنسبة للإمارات، تبدو فلسطين فكرة متأخرة في صفقتها للتطبيع مع إسرائيل. فبينما يؤكد مسؤولوها على أنهم استطاعوا إيقاف الضم الوشيك لأراضي الضفة الغربية، فإن ولي عهد أبو ظبي والحاكم الفعلي للإمارات، محمد بن زايد، قد مدَّ في الأساس سلماً للقيادة الإسرائيلية للنزول عن شجرةٍ كانت بالفعل قد وجدت أن ثمارها لم تنضج بعد. فكون الوتيرة اللاحقة للتطبيع والعلاقات الاقتصادية مع إسرائيل قد انفصلت تماماً عن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين يؤكد عدم اهتمام أبو ظبي بهم في حساباتهم مع إسرائيل. وأولئك الذين تبنوا لاحقاً نموذج أبو ظبي في التطبيع مع إسرائيل، وتحديداً البحرين، يتعاملون مع المسألة الفلسطينية كأنها أمر غير موجود، لا عقبة يبحثون عن سبل تجاوزها. شكَّلت الاتفاقات التي تحمل اسماً المبالغ فيه -اتفاقات إبراهيم- صفقات عربية مع الولايات المتحدة أكثر منها مع إسرائيل نفسها؛ فالتطبيع مع إسرائيل كان ثمن الوصول إلى الاعتراف الأميركي بالمطالب في بعض الأراضي (كما هو الحال مع المغرب) أو برفع بلدٍ ما من القائمة السوداء (في حالة السودان) أو بيع أسلحة متطورة (الإمارات).
وبالنسبة للفلسطينيين، فإن أهمية هذه الاتفاقات تمتد لتصبح أبعد من مجرد غض الطرف أو الخيانة. فهذه الصفقات لا تقوض فقط ركيزة حيوية للاستراتيجية الفلسطينية الحالية التي تقوم على مفهوم أن الدولة الفلسطينية شرط أساسي للاعتراف الإقليمي بإسرائيل، بل إن هذه الصفقات تشتمل أيضاً على تهديد لاتفاقيات عربية إضافية مع إسرائيل قد تكون أكثر جوهرية، والتي ستنفذ بشكل أكثر مباشرةً على حساب الفلسطينيين.
وإذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد استطاعت حتى عام 1982 الزعم أن لديها خياراً عسكرياً لتحقيق أهدافها، فقد تضاءلت فرصه بشدة في ذلك العام إثر طردها من لبنان، ثم تخلت عنه رسمياً في العام 1993 باعتبار هذا جزءاً من اتفاقية أوسلو. واعتبارًا من تلك السنة (1993) لم يعد بإمكان الدبلوماسية الفلسطينية السعي للحصول على نفوذ من التهديد باستخدام القوة المسلحة دون أن تكون في ذلك مخالفة صريحة للشروط التي تفاوَض على أساسها ياسر عرفات مع إسرائيل. ويعتقد كثيرون أن محاولته القيام بهذا في انتفاضة الأقصى، ما بين عامَي 2000 و2004، قد كلفته حياته.
في البداية حين وقعت المنظمة اتفاقية أوسلو، اعتقد كثير من قادتها أن إسرائيل قد وصلت إلى قناعة بأن الوضع القائم قد صار غير مستدام، وكانوا يأملون أنها أخيراً أقرت بالحكمة الكامنة في التنازل عن الأراضي المحتلة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. أما إذا لم يكن الأمر هكذا، فقد افترضوا أن الولايات المتحدة وأوروبا لن يفوّتا هذه الفرصة غير المسبوقة لحل صراعٍ لطالما مثل تهديداً للسلام والأمن الدوليين من أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وستستخدم القوتان نفوذهما على إسرائيل لإجبارها على التصرف بعقلانية. ولكن لا بدّ هنا من الإضافة أن تلك الآمال عكست قراءتهم للبيئة السياسية الإقليمية والدولية في أعقاب أزمة الكويت ونهاية الحرب الباردة، وليست من منطوق أو مفهوم اتفاقية أوسلو.
من الأمور الأساسية في حسابات الفلسطينيين تصورهم أن لديهم حق النقض (فيتو) في وجه التطبيع العربي مع إسرائيل. فبينما كان متاحاً لدول الجوار التي لها مصالح مباشرة في التفاوض بشأن اتفاقيات مع إسرائيل، كان متوقعاً من الدول العربية الأخرى، في النطاق الأوسع، أن لا تعترف بإسرائيل سوى إن كان لديها ضوء أخضر بذلك، وبعد إقامة دولة فلسطينية. في هذا الصدد، فإن القيادة الفلسطينية ليست ساذجة؛ فقد أدركت بالفعل أن اهتمام إسرائيل الأساسي بالسلام مع الفلسطينيين ليس هذا السلام في حد ذاته، بل تهتم أن يساعدها هذا السلام في التطبيع مع العالم العربي وأن تصل إلى أسواق المنطقة ومواردها وسُبل المواصلات فيها. وكما لو كانت السلطة الفلسطينية تثبت دورها باعتبارها “الحارس” في المنطقة، وافقت ضمنياً على فتح “مكتب تمثيل تجاري” إسرائيلي في قطر في العام 1996.
حسابات فلسطينية خاطئة
ما لم تتوقعه القيادة الفلسطينية، ولكن كان عليها أن تتنبّأ به في منطقة شهدت نصيبها من التحولات الاستراتيجية، هو تلك التطورات الإقليمية والعالمية التي مثلت زخماً إضافياً لتقوية العلاقات العربية-الإسرائيلية. والأبرز في هذا الصدد هو هجمات القاعدة في 2001 على الولايات المتحدة التي أدت إلى حالة جنونية في الحكومات العربية سعياً لإبداء القرب من إسرائيل، بغية استرضاء الولايات المتحدة، وذلك في صورة مبادرة السلام العربية 2002. وبعد ذلك، مثّل اتساع نطاق دور إيران الإقليمي، في أعقاب قيام التحالف الأميركي-البريطاني بتفكيك الدولة العراقية، الركيزة التي قامت عليها أجندة إقليمية مشتركة بين إسرائيل والدول العربية المحافظة، وزادت وتيرة التعاون بعد اندلاع الاضطرابات التي عمت العالم العربي في عامَي 2010 و2011.
صحيحٌ بالطبع أنه بحلول الوقت الذي فتحت فيه بعثتها في قطر، كانت إسرائيل قد وطدت بالفعل علاقات غير رسمية -بشكل أو بآخر- مع كافة الدول العربية تقريباً. ولكن بسبب عدم استمرار الفلسطينيين في تقديم اعتراض ثابت وعلني على توطيد العلاقات العربية مع إسرائيل، ساهم الفلسطينيون بشكل أو بآخر في نهاية المطاف في تعميق هذه العلاقات واتساع رقعتها، وساعدوا في تمهيد الطريق لاتفاقيات التطبيع لعام 2020، التي سُحِبت منهم فيها هذه البطاقة الاستراتيجية الحيوية.
في حين أن الاتفاقية الأولية بين الإمارات وإسرائيل -وتوابعها البحرينية والسودانية والمغربية- أثارت غضباً فلسطينياً حقيقياً، إلا أن قلقهم الأكبر هو أن المملكة العربية السعودية قد وافقت ضمنياً على هذه الاتفاقات، تمهيداً لإبرامها بنفسها. وإذا ظل دونالد ترامب وجاريد كوشنر في منصبهما بعد انتخابات الرئاسية الامريكية الأخيرة، فستكون هذه نهاية اللعبة بالنسبة للفلسطينيين. أما بالنسبة للزعيم الفلسطيني محمود عباس، فإن الدعم والتشجيع غير المباشر لقرينه السياسي الذي تحول إلى عدوه اللدود -محمد دحلان، الذي ينعم الآن برسوخ قدمه في أبو ظبي- يشكل تهديداً إضافياً.
لا نملك إلا أن نتكهن برد فعل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال إدارة ترامب الثانية. يبدو من المعقول أن نفترض أن كوشنر ونتنياهو ومحمد بن سلمان كانوا سيبذلون قصارى جهدهم للتوصل إلى الصياغة التي ستمكن السعودية من الاعتراف بإسرائيل؛ قد يكون ذلك عن طريق نقل وصاية الحرم الشريف من الأردن إلى المملكة العربية السعودية مثلاً. لكن ما نعرفه بصورة شبه مؤكدة هو أن إسرائيل كانت ستواصل ضمها “المعلَّق” للضفة الغربية، وسيكون ذلك بدعم أميركي غير مشروط. إن انتخاب جو بايدن لم يؤدِّ إلا إلى ارتياح جزئي، وذلك بسبب مخاوف الفلسطينيين من أن محمد بن سلمان سيسعى لنيل رضا الإدارة الأميركية الجديدة المتشككة من خلال فتح ذراعيه لإسرائيل.
ردة الفعل الفلسطينية
إذا نظرنا إلى ما حمله التطبيع من رهانات وجودية، فسنرى أن ضعف رد الفعل الفلسطيني كان لافتاً للنظر؛ وهذا ينطبق على السلطة الفلسطينية في رام الله، وحماس في قطاع غزة، ومختلف التنظيمات الفلسطينية الأخرى. وبصرف النظر عن الإدانات اللفظية -التي أفسحت مجالاً لخلافٍ مهذب استمر لبضعة أشهر- تصرف الفلسطينيون -وعباس على وجه الخصوص- كما لو كانوا لا حول لهم ولا قوة، تماماً كما قالها لهم كوشنر ونتنياهو ومحمد بن زايد بلسان الحال. يبدو أن كل هذا يؤكد الصيغة التي روّج لها كوشنر ونتنياهو بأن القضية الفلسطينية لم يعد لها صدى داخل المنطقة، ومن ثم يمكن تجاهلها بأمان؛ وإذا جرى تجاهلها لفترة كافية، وطوقتها سلسلةٌ من المعاهدات العربية-الإسرائيلية فسوف تخبو جذوتها في النهاية، وتذهب طيَّ النسيان.
جهر كوشنر بحكمته الاستثنائية تلك على قرّاء صحيفة “وول ستريت جورنال” في 14 آذار/مارس 2021، وأصر على “أننا نشهد الأنفاس الأخيرة لما عُرف بالصراع العربي الإسرائيلي”. وبتقييمٍ سطحي مفاده أن اتفاقيات التطبيع -التي كان وسيطاً فاعلاً في صياغتها- تشكل “زلزالاً جيوسياسياً”، استعار كوشنر تشبيه نتنياهو للصراع، ليخلص إلى الآتي:
كان أحد أسباب استمرار الصراع العربي الإسرائيلي لفترة طويلة هو الأسطورة القائلة بأنه لا يمكن حله إلا بعد أن تحل إسرائيل والفلسطينيون خلافاتهم؛ وهذا لم يكن صحيحاً على الإطلاق. فقد كشفت اتفاقيات إبراهيم أن الصراع لا يعدو كونه نزاعاً عقارياً بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولا يستلزم تعطيل علاقات إسرائيل مع العالم العربي الأوسع
إذا أمكننا أن نضع أيدينا على شيء واحد فعله الفلسطينيون بشكل صحيح خلال هذه الفترة، فهو أنهم قاوموا إغراء التطبيع والسعي للحصول على تنازلات مالية أو غيرها مقابل التصالح مع اتفاقيات 2020 (ويظل من غير المؤكد ما إذا كان ثمة اتصالات غير رسمية مع الأطراف المخالفة قد أجريت بالفعل في هذا الصدد). وسط هذا الفراغ، احتشد الفلسطينيون في أيار/مايو 2021 ضد إسرائيل، وبذلك يبدو أنهم قد أعاقوا -على الأقل في الوقت الحالي- احتمالية إبرام اتفاقيات تطبيع جديدة.
عند النظر في تأثير هذه التعبئة والاحتشاد في أيار/مايو 2021 على جميع أنحاء العالم العربي، فيجدر التذكير مرة أخرى بالافتراضات التي طُرحت في عام 2020 حول اللامبالاة العربية بفلسطين. يكفي أن نقول إن الضابط صاحب المنصب العسكري الأعلى في واشنطن -الجنرال مارك ميلي- قدم في 17 أيار/مايو الرد النهائي على كوشنر عندما حذر من “خطر وقوع زعزعة استقرار واسعة النطاق…وسلسلة كاملة من العواقب السلبية إذا استمر القتال [بين إسرائيل والفلسطينيين]”. كما أنه عندما تواصلت إدارة بايدن مع الأطراف الإقليمية للتوسط لإنهاء الحرب، لم تُوجَّه أي دعوة إلى أبو ظبي؛ لأنها بفتح ذراعيها لإسرائيل، ورفضها للفلسطينيين -ولا سيما حماس- قد جعلت نفسها عديمة الجدوى دبلوماسياً. وعند تقييم الوضع، قيل إن الرياض خلصت إلى أنه مع وجود عدد كبير من سكانها من المهتمين بالقضية وأكثر انخراطاً في السياسة، يجب وضع التطبيع الرسمي جانباً، على الأقل في الوقت الحالي.
من الصعب تقديم تفسير للتضامن العربي الواسع مع الفلسطينيين في عام 2021، إذا قورن بنظيره عند وقوع الاعتداءات الإسرائيلية الأطول والأكثر دموية في عامي 2008 و 2014. من الواضح أن مركزية المسجد الأقصى والهجوم الإسرائيلي الفج على المصلين المسلمين خلال شهر رمضان قد حرك الرأي العام في جميع أنحاء المنطقة. كما أن صور وواقع عامة الفلسطينيين في كل مكان وهم يتحدون عن قصد حول قضيتهم الوطنية قد ألهمت العرب من المغرب إلى اليمن؛ على العكس من القادة البطَّالين، الذين يتوسلون بكل حيلة من أجل الحصول على مكتسبات حزبية على حساب المصلحة الوطنية. كما أن الديناميات الأخرى -مثل الغضب من الجمود الفردي والجماعي لحكامهم، والحزبية الغربية الوقحة المؤيدة لإسرائيل- قد كان لها دور أيضاً، ولكن جميع هذه الطاقات لم يطلق لها العنان إلا من خلال التعبئة الفلسطينية.
خيارات الفلسطينيين: الوحدة من أجل البقاء
كما أشار الكثيرون، ففي أيار/مايو 2021، تفوقت أعداد كبيرة من الفلسطينيين العاديين من كل مكوّن جغرافي على قياداتهم المنقسمة للوقوف والدفاع عن حقوقهم الأساسية. وبذلك فهم لم يفضحوا فقط قادتهم المتجمدين، بل سلطوا الضوء أيضاً على أطراف داخل المنطقة أعطوا الأولوية للعلاقات مع إسرائيل. إنه إنجاز يمكن متابعته والبناء عليه، فقط إذا استغل الفلسطينيون هذه الفرصة المتاحة لهم الآن من أجل توحيد وتنشيط حركتهم الوطنية، وتحويلها مرة أخرى إلى قضية توحِّد الأطراف المستقطبة في المنطقة ولم تعد متورطة في صراعات داخلية. قد لا يربأ هذا الضرر الذي وقع بالفعل فيما يتعلق بالتطبيع العربي الإسرائيلي، لكنه يمكن أن يحد من نطاق الاتفاقات القائمة، ويعرقل إتمام اتفاقات جديدة ولها عواقب أخطر.
ما الذي يريده عرب التطبيع من دولة الاحتلال؟
هذا هو السؤال الجوهري في الوقت الراهن، وحين نريد الإجابة عن هذا السؤال تصيبنا الحيرة، لأن كل الإجابات غير منطقية، فلو أراد العرب العلاقة مع أمريكا فهي الآن بالنسبة لهم في أفضل أحوالها من التبعية المطلقة، ورضا رب البيت الأبيض عن عبيده، ناهيك عن أن أمريكا الآن ستنتقل بمركز تركيزها السياسي من الشرق الأوسط إلى أوروبا الشرقية وروسيا والأزمة الأوكرانية التي على ما يبدو أنها ستعيد تشكيل العالم ونقله إلى توازن تعدد الأقطاب، وبذلك تتخلى شيئاً فشيئاً عن الشرق الأوسط الذي أصبح الأمن فيه مستتباً للولايات المتحدة، ولو قلنا إنه السلاح، فإن أسواق السلاح العالمية مفتوحة على مصراعيها أمام البترودولار، فمليارات الأمة ومقدراتها تصبّ في مصانع السلاح الغربية منذ عقود سواء للحاجة أو المجاملة وسوق السلاح العالمي أثبت جدارته وتفوقه بمراحل على السلاح الصهيوني، فمنظومة القبة الحديدية صهرتها صواريخ المقاومة ودبابة الميركافا فشلت فشلاً ذريعاً في لبنان وغزة، ناهيك عن أن هذا الفشل لم يكن أمام جيش نظامي بل كان في مواجهة قوى “شبه نظامية” محاصرة، والأدهى أن المقاومة الفلسطينية هدمت هذا الوثن الأجوف بقواها الذاتية وتصنيعها المحلي، ما يوجه ضربة قاسمة لمنظومة التسليح الصهيونية.
وإذا كان المسوغ هو الحلف في وجه إيران فإن العقيدة القتالية الإسرائيلية تقول للقاصي والداني: “اليهودي لا يقاتل تحت راية الأغيار”، ولا يمكن أن تزج إسرائيل بطائرة واحدة أو جندي واحد في حلف مع الأغيار، وأنها لم ولن تقاتل من أجل الأغيار، حتى الأغيار الذين قاتلوا من أجلها مثل “قوات سعد حداد – جيش لحد” في جنوب لبنان تركتهم لمصيرهم عندما انسحبت من لبنان ولم تطلق طلقة واحدة من أجلهم، وكذلك حلفاؤها الأكراد تركتهم لمصيرهم الأسود في مواجهة العراق.
وتبقى الحيرة المطلقة عن سر هذه الهرولة صوب دولة الاحتلال، لنقف بعد طول تأمل أمام إجابة واحدة لا غير: “تحالف الظالمين في وجه المظلوم”، الأنظمة العربية جميعاً تدرك في وعيها الباطن أنها قوة احتلال، وأنها تحتل شعوبها لمصلحة عدوها، وأن علاقة الأمن العربي بالمواطن العربي لا تختلف شيئاً عن علاقة الأمن الصهيوني بالشعب الفلسطيني، إنه ببساطة تكاتف الظالمين مع بعضهم البعض تكاتف أصحاب القوة الغاشمة في وجه المستضعفين والمسحوقين والمطحونين، وفي إطار هذا التكاتف استطاع الاحتلال أن يقنع الأعراب بقوته الزائفة، وأن ينسج لهم سرابيل من وهم لا تقيهم الحر ولا القمر ولا حتى بأس شعوبهم أو أعدائهم على حد سواء، ليهتف ذاك الفتى وغيره “أن الملوك عراة وأن الخياط كاذب”.
المنابع صحف ومواقع+ مايكل سينغ من “فورين أفيرز”
النهاية
الكاتب : Shafaqna1
الموقع :ar.shafaqna.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2022-04-29 22:00:12
رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي